في ظلّ الهدنة السائدة في اليمن منذ مطلع نيسان – أبريل الماضي، ثمّة ظاهرة يصلح التوقف عندها، إضافة بالطبع إلى بدء تبلور قناعة وجود غياب لحلّ عسكري للمعضلة التي يعاني منها البلد. تتمثل هذه الظاهرة في ترسيخ وجود الكيان الإيراني الذي أقامه الحوثيون في شبه الجزيرة العربيّة. في صميم هذا الكيان العاصمة صنعاء وميناء الحديدة المهمّ على البحر الأحمر. كذلك، لهذا الكيان الذي يمتد ليصل إلى تعز المقسمة إلى مناطق نفوذ، حدود طويلة مع المملكة العربيّة السعوديّة.
لم يعد هناك مفرّ من ضرورة أخذ قيام مثل هذا الكيان على محمل الجدّ. صار عمر هذا الكيان اليوم ثماني سنوات بالتمام والكمال. في الحادي والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014 استكمل الحوثيون الذين يسمّون أنفسهم “جماعة أنصارالله” سيطرتهم على صنعاء بعدما أظهر الرئيس السابق عبدربّه منصور هادي سذاجة، ليس بعدها سذاجة، في التعاطي مع هذه الظاهرة.
قرّر عبدربّه، الذي ألغى الجيش اليمني، والذي كان يعتقد أنّ في استطاعته استخدام الحوثيين في تعزيز سلطته والانتقام ممن يعتبرهم خصومه، عقد اتفاق مع هؤلاء. سمّي ذلك الاتفاق الذي وقّع في صنعاء بمباركة من الأمم المتحدة، عبر جمال بنعمر مبعوث الأمين العام وقتذاك “اتفاق السلم والشراكة”.
لم تمض ساعات إلّا وتنكّر الحوثيون، الذين تخطط لهم إيران لكلّ خطوة يقدمون عليها، للاتفاق. سارعوا إلى وضع عبدربّه في الإقامة الجبريّة. تبيّن بكل بساطة أن لا سلم ولا شراكة في اليمن منذ الانقلاب الذي نفّذه الإخوان المسلمون على الرئيس الراحل علي عبدالله صالح ابتداء من شهر شباط – فبراير 2011.
ثبت مع مرور الوقت أن المستفيد الوحيد من هذا الانقلاب، الذي ركب موجة “الربيع العربي”، كان إيران التي خططت منذ سنوات عدة لإيجاد موطئ قدم لها في اليمن، أي في شبه الجزيرة العربيّة.
بعد ثماني سنوات على وضع “الجمهوريّة الإسلاميّة” يدها على صنعاء وإحكام سيطرتها على الحديدة واغتيال علي عبدالله صالح أواخر العام 2017، وبعد تظاهر الحوثيين بأنّهم على استعداد لمشاركته في السلطة، يفتخر المسؤولون الإيرانيون بالانتصار اليمني الذي تحقّق لهم. يعتبر هؤلاء أن هناك أربع عواصم عربية باتت تحت سيطرة طهران. هذه العواصم هي، إضافة إلى صنعاء، كلّ من بغداد ودمشق وبيروت…
في الإمكان الكلام عن خطوات إيجابيّة عدّة من أجل وضع حدّ للنفوذ الإيراني في اليمن والحدّ منه. من بين هذه الخطوات قيام مجلس القيادة الرئاسي الحالي الذي خلّص اليمن من عبدربّه منصور هادي والمجموعة المحيطة به وقلّص من نفوذ الإخوان المسلمين. لا يزال أمام هذا المجلس، الذي على رأسه رشاد العليمي، بعض الوقت لإظهار أنّ شيئا ما تغيّر في اليمن، أقلّه على صعيد أداء “الشرعيّة” في مناطق سيطرتها.
لكنّ السؤال الذي سيطرح نفسه هل الكيان الإيراني في اليمن كيان أبدي وأنّ لا مجال للتخلص منه من دون حصول تغيير جذري في الداخل الإيراني يجعل من هذا البلد بلدا طبيعيا مسالما؟
على الرغم من كلّ حملات التجنيد والتعبئة التي يقوم بها الحوثيون في مناطق سيطرتهم، سيظل مطروحا هل يمكن حصول تغيير في داخل المناطق الشمالية، وهي الجزء الأكبر مما كان يعرف قبل الوحدة في العام 1990 بـ”الجمهوريّة العربيّة اليمنيّة”؟
من المفيد العودة إلى نقطة البداية. معنى ذلك الاعتراف بأن الحوثيين ما كانوا ليسيطروا على صنعاء لولا القرار الغبي الذي اتخذه الرئيس السابق والقاضي بإعادة تشكيل الجيش اليمني. فعل ذلك من منطلق واحد هو الانتقام من علي عبدالله صالح الذي أبقاه نائبا له طوال أحد عشر عاما… ومن ابن الرئيس السابق أحمد علي عبدالله صالح الذي كان يقود ألوية الحرس الجمهوري، وهي قوّة منظمة استطاعت التصدي للحوثيين في ست حروب معهم.
إلى ذلك، لم يكن من مجال للسيطرة على صنعاء لو لم يخترق الحوثيون التركيبة القبليّة في الشمال اليمني. هناك قبائل عدّة من بكيل وحاشد قاتلت إلى جانب الحوثيين في معارك سبقت وصولهم إلى صنعاء، خصوصا في محافظة عمران، معقل عائلة الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، الذي كان، قبل وفاته، الزعيم القبلي الأقوى في اليمن بعدما جعل من حاشد قوّة قبليّة متماسكة.
ليس معروفا هل قضى الحوثيون نهائيا على التركيبة القبليّة في اليمن؟ هناك أسئلة كثيرة مطروحة في شأن مستقبل هذه التركيبة القبليّة. هناك من لا يزال يعتقد أنّ هذه التركيبة ما زالت حيّة ترزق ولن تبقى، إلى ما لا نهاية، رهينة ايران والحوثيين على الرغم من كلّ الجهود التي بذلها هؤلاء في السنوات الثماني الأخيرة من أجل تغيير طبيعة المجتمع الزيدي التقليدي في اليمن…
لن يكون سهلا التخلّص من الحوثيين ومن الهيمنة الإيرانيّة على شمال اليمن، لكنّه ليس معروفا هل ستنجح “جماعة أنصارالله” في إخضاع المجتمع في شمال اليمن في ضوء الجهود التي تبذلها من أجل تعميم ثقافة معيّنة في هذه المنطقة معتمدة على أمرين؛ أولهما تغيير البرامج التعليميّة وتعميم الخرافات والآخر التجنيد الإجباري الذي يشمل الأطفال والمراهقين.
ما يمكن أن يشجّع على بعض التفاؤل في اليمن عدم امتلاك الحوثيين لأي برنامج اقتصادي أو تعليمي… أو سياسي على علاقة بما هو حضاري في هذا العالم. ليس لديهم غير البؤس والتخلّف ينشرونهما ويعممونهما في كل أنحاء الشمال اليمني. يضاف إلى ذلك أنّ “قوات العمالقة” التي تصدت للحوثيين مطلع العام الحالي في مأرب وشبوة أثبتت أنّهم ليسوا قوّة لا تقهر…
هل يمكن أن يتغيّر الوضع في شمال اليمن بسبب عوامل داخليّة أم أن العالم مستعد لترك الكيان الإيراني يتكرّس، على غرار ما هو حاصل في قطاع غزّة حيث ليس ما يشير إلى أن “الإمارة الإسلاميّة” التي أقامتها “حماس” بمباركة إسرائيلية، منذ منتصف العام 2007، ستزول غدا؟
التعليقات