كثيرا ما يسأل صناع القرار والمفكرون الاستراتيجيون في الغرب؛ لماذا لم تنجح العقوبات الاقتصادية في تغيير سلوك النظام الايراني؟ وكانوا يرددون اننا لا نريد الحرب وهذا الخيار خارج موضوع النقاش، فإن لم تنجح العقوبات ولا نريد الحرب فالحل الانسب والوحيد من وجهة نظرهم هو التفاوض. وخلف هذا الحل وقع الغرب في فخ الاوهام والامنيات القائمة على تصورات خاطئة من الاساس؛ لأنها لم تنظر للموضوع بالشكل الصحيح.

ولكي نصل للحل الأنسب واقعيًا والقابل للتطبيق يجب ان نعرف كيف يفكر ويعمل النظام الايراني، لا من منظور النظريات الواقعية للأمن ولا حتى الليبرالية لأنها تبدأ بتحليل إيران كدولة ونظام طبيعي وهذا غير دقيق، إنما كما تتطلب النظرية البنائية الشاملة والتي تنظر للهويات والعوامل المحلية والتاريخية بالإضافة للعوامل الاقليمية والدولية، ووفق هذا التصور يجب تحليل ايران ونظامها القائم من منظور الدولة الثورية والتي وفقًا لهويتها «الثورية» ترسم سياساتها واهدافها الخارجية.

فالنظام الايراني استغل العقوبات الدولية عليه لتعزيز هذه الصورة الثورية من خلال طرح نفسه كضحية «للاستبداد» و«الاستهداف» الشيطاني من قبل الدول الكبرى ومن قبل من يختلف معه من جيرانه، وأن الخلاص للشعب الايراني يجب ان يكون من خلال التفافهم حول هذا النظام «المستهدف» ودعمه لتحقيق أهدافه «الثورية» مثل نصرة «المستضعفين» ونشر مبادئ ثورته في كل مكان.

وبناءً على هذا التصور تبنى النظام الايراني عددا من الاستراتيجيات والاهداف والتصورات (بناءً على هويته الثورية) القائمة على عدد من العناصر الصورية التي سعى لترسخيها في الوجدان الشعبي، وتقع ضمن 8 عناصر وفقًا للبروفيسور الإيراني مهدي محمد نيا، وتحدد هوية النظام الايراني وتوجهاته، وهي:

1. منطق المسؤولية، حيث يكلف النظام الايراني نفسه بقيادة العالم الاسلامي، وبالتالي من منظور عقدي يجب ان يتحملوا هذه المسؤولية، وهذا توجّه قائم على تحديد الهدف ولا يقوم على المنطق السليم.

2. مواجهة الهيمنة والتغطرس العالمي، حيث يجب على النظام الإيراني حماية العالم من هيمنة القوى الكبرى ويقسم العالم إلى «متغطرسين» و«مستضعفين» يجب عليه حمايتهم ونصرتهم، ومن هذا المنطلق وغيره يبرّر تدخله في شؤون الدول الاخرى.

3. الاستقلالية والاكتفاء الذاتي، وعليه يجب عليهم بناء القدرات الذاتية محليا من دون الحاجة للآخرين، لكي يصمدوا أمام العقوبات الدولية الواقعة عليهم ولكي يفرضوا شرعيتهم أمام الشعب الايراني، ما زاد جرعة تقسيم العالم الى «نحن» و«هم»، وهذا المبرر يجعلهم يتمسكون بالبرنامج النووي كمشروع قومي يعطيهم الشرعية التي يحتاجونها.

4. القومية الفارسية، وهذا التصور يعطيهم السياق التاريخي الذي يحتاجونه للحكم محليا وأيضًا يبرر لهم وجود مشاريع قومية يعتزون بها وتعطيهم المكانة التي يعتقدون انها حقهم التاريخي والقومي ولا يوجد لديهم سوى البرنامج النووي، ويعتبر هذا التصور امتداد لمرحلة الشاه ولكن بصبغة ثورية وبعد ايدولوجي.

5. العدو، وهذا أيضًا امتداد لتقسيم العالم وفق ايدولوجية عقدية واسلوب ثوري يعتاش على وجود عدو متربّص بهم ويجب مواجهته، حيث يقول مهدي نيا إنه «من غير العدو الوهمي لن يتمكن قادة البلد من إكمال 80% الى 90% من خطبهم السياسية».

6. الوحدة الإسلامية، فهم يعمقون الانقسام ويصدرون صورة العدو المشترك الذي يجب ان نتصدى له تحت قيادتهم ووفق تصورهم ولخدمة مصالحهم!

7. الشهادة والجهاد، ووفق هذا التصور نجح النظام الايراني من إعطاء غطاء ديني لكل مشاريعه الإقليمية وسياساته الخارجية، فخلق منظمومة لتصدير العقيدة القتالية التي تخدمه وتروج لأهدافه الخارجية سواء عبر تأسيس حزب الله وبقية المليشيات المقاتلة خارج حدودها أو الحرس الثوري محليًا.

8. العدالة، ومن خلال هذا التصور يحاول النظام الايراني ان يعطي سياساته وأهدافه الخارجية غطاءً أخلاقيًا وهميًا يبرر من خلاله سياساته وتدخلاته ومشاريعه الاقليمية والدولية، فالنظام الايراني يصور لشعبه انه يجب ان يدعم المليشيات «المستضعفة» وأن يتوسع في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرهم ليحقق العدالة وان ينصر المظلوم وفق تصوراته ومصالحه.

لذلك نجد ان النظام الايراني لا يسعى لاسترضاء الغرب للحصول على مكاسب محددة، انما يسعى لرسم تصورات تعطيه الغطاء المحلي للحكم سواء كانت وفق سياق تاريخي او قومي او ديني، فمنطلقاته محلية وليست دولية، وهذا ينسف المبدأ الغربي للتفاوض معه على اسس غير واقعية ويوضح سلوكه الثوري في محاولات التوسع ونشر الفوضى والتدخل في شؤون الدول ليستمر في الحكم محليًا، ولا يجب ان نتوهم ان قبوله بالحصول على مكاسب من خلال التفاوض على انه تغيير في السلوك او الاهداف لأن ذلك يعني نهاية شرعيته المحلية للحكم وتخلي عن اركانه التي يرتكز عليها.

وبناءً على هذه التصورات التي خلقها النظام الايراني واستخدمها لوضع استراتيجاته واهدافه الخارجية، اوجد الادوات التي تعينه على تنفيذها ووظف العقوبات الدولية لتعزيز صورته وفرض شرعيته للحكم محليا، ومن اهم الادوات التي اوجدها النظام الايراني لتحقيق اهدافه الخارجية هو تأسيس كيانات غير تابعة للدول او ما يطلق عليهم non state actors في غالبهم ميليشيات مسلحة او احزاب سياسية وغيرهم من كيانات مدعومة من النظام الايراني وتعمل وفق اوامره ومصالحه واجنداته، فتتحمل الدول التي توجد فيها هذه الكيانات التابعة لهم تبعات تصرفاتهم من غير ان يتحمل النظام الايراني المسؤولية المباشرة لتصرفات هذه الكيانات، والتي من ضمن بعض اعمالها اختطاف الاجانب ومن ثم يتدخل النظام الايراني ويتبرع بالدخول كوسيط محايد مقابل حصوله على مكاسب او تنازلات دولية، او استخدامهم للقيام بالعمليات الارهابية والتفجيرات والاغتيالات ايضا من دون ان يتحمل النظام الايراني تبعات والمسؤلية المباشرة عن هذه الجرائم. او تشجيع بعض هذه الكيانات للقيام باعمال تخريبية وتعطيل التنمية في دولها من اجل القيام بثورات انقلابية والوصول للحكم في هذه الدول او الحصول على موقع سياسي مؤثر ومهيمن على صنع القرار وبالتالي تدور هذه الدول في فلك النظام الايراني ومصالحه.

لذلك لن تنفع العقوبات الاقتصادية لوحدها طالما لم تتم محاسبة النظام الايراني بشكل مباشر وجعله يتحمل مسؤولية هذه الكيانات وتصرفاتها. فالنظام الايراني يستخدم سياسات الغرب الموجهة ضده لفرض نفسه على الشعب الايراني وليعزز استمراره القسري في الحكم.

انما ان ارادوا الحصول على نتائج ايجابية تغير من سلوك النظام الايراني، فيجب ان تتزامن العقوبات الاقتصادية على النظام مع تحميله المسؤولية المباشرة لاي تصرفات تقوم بها الكيانات المدعومة من قبله، وان تعطل المنظمومة الترويجية التي يستخدمها للترويج للهوية الثورية والتصورات العقدية التي يوظفها محليا واقليميا لتحقيق اهداف سياساته الخارجية، وكل ذلك وفق تصور صحيح لطبيعة النظام الايراني وحقيقة اهدافه.