لم يكن مفاجئاً أن يثير اتفاق مجموعة "أوبك-بلس" للدول المصدرة للنفط بخفض مستوى الإنتاج بمعدل مليوني برميل يومياً غضب الإدارة الأميركية، التي سارعت إلى الكشف عن أن البيت الأبيض يعتبر أن هذا الاتفاق السعودي – الروسي هو بمثابة عمل عدائي. ولم يكن المسوؤلون السعوديون، وفي مقدمهم وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، بعيدين من هذا الموقف، لا سيما أن الصحافة التي كانت حاضرة في فيينا لتغطية اجتماع "أوبك-بلس" سارعت إلى طرح الأسئلة التي تناولت القرار وموقف الولايات المتحدة والدول الأوروبية منها. فحين سألت مقدمة البرامج الشهيرة في محطة "سي أن بي سي" الأميركية هادلي غامبل وزير الطاقة السعودي عن رده على ردود الفعل الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة التي تعتبر أن الاتفاق هو عمل عدائي وأنه يقال إن "أوبك – بلس" تأخذ العالم كرهينة من خلال سياساتها النفطية، سارع إلى إجابة خلال مؤتمر صحافي قائلاً: "أريني أين العمل العدائي؟". لم يكن الوزير السعودي يرغب في الخوض في تفاصيل قرار خفض الإنتاج. لكن جميع الخبراء، بصرف النظر عن الجانب السياسي في القرار، عزوا اتخاذه قبل أي شيء آخر إلى أن الدول المنتجة للنفط قد قامت بالخطوة من أجل منع انخفاض الأسعار إلى ما دون مستوى 80 دولاراً للبرميل. فعلى سبيل المثال يمثل مستوى الأسعار عند 85 إلى 100 دولار للبرميل الحد الأدنى الذي تحتاجه المملكة من أجل تغطية موازناتها العامة. وأي انخفاض يؤثر سلباً على الاقتصاد السعودي الذي ينمو بخطى متسارعة منذ أعوام عدة، مع تزايد الخطط التنموية التي يطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. أهم من ذلك، أشار العديد من الخبراء إلى أن مؤشرات الانخفاض المستمر لسعر برميل النفط شكلت جرس إنذار للمنتجين، مخافة أن يصل إلى ما دون 80 دولاراً. وثمة عامل آخر دفع "أوبك-بلس" إلى اتخاذ قرار الخفض، وهو الخطط الأوروبية التي كشف عنها مؤخراً وتهدف إلى وضع سقف لأسعار الطاقة الروسية في إطار الحرب في أوكرانيا. هذا الامر شكل بالنسبة إلى بقية الشركاء في منظمة "أوبك" دافعاً إلى العمل على التصدي المسبق لأي محاولة، وبصرف النظر عن الموقف من حرب أوكرانيا، لتنفيذ سياسة فرض سقوف على الأسعار لأسباب سياسية.

واعتبر المنتجون، وفي مقدمهم السعودية، أن روسيا وحدها اليوم مستهدفة في هذه السياسة، لكن ماذا عن الغد؟ وماذا لو تكرر الأمر عند كل خلاف يحصل مع دولة أو أكثر من الدول المنتجة؟ بهذا المعنى بدا القرار الذي اتُّخذ في فيينا بمثابة ضربة استباقية لخطط وضع سقوف على الأسعار لأسباب سياسية. بالطبع يخدم هذا القرار روسيا التي تعاني نكسات متتالية في أوكرانيا، ويزعج كثيراً الأوروبيين. وفي الوقت عينه تُطرح على هامش المسألة قضية استخدام الطاقة كسلاح سياسي. وما من شك في أن موسكو استخدمت وتستخدم الطاقة سلاحاً في حربها على أوكرانيا، ومع الغرب عموماً. لكن الدول الأخرى غير المعنية مباشرة بالحرب، مثل دول الخليج العربي، تعتبر أن مصالحها القومية مهددة بمحاولات كسر أسعار النفط عالمياً. أضف إلى ذلك أن الغرب يريد أن تساهم الدول المنتجة، وجزء وازن منها حليف لأميركا والغرب، في مجهود الحرب ضد روسيا، في وقت لا تؤخذ مصالح الحلفاء القومية على محمل الجد، بخاصة من قبل الولايات المتحدة. فالزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الأميركي للمنطقة، حيث زار إسرائيل، الأراضي الفلسطينية والمملكة العربية السعودية التي كانت محطته الرئيسية للقاء قادة العالم العربي، لم تؤت ثمارها. لا بل إنه بمرور الوقت بدا أنها فشلت في تبديد الغيوم المتجمعة في سماء العلاقات الأميركية – العربية، وفي مقدمها العلاقات مع المملكة العربية السعودية. فواشنطن التي تلح على حلفائها برفع إنتاجهم من النفط لمنع ارتفاع الأسعار في مرحلة الحرب في أوكرانيا، لم تتشاور مرة مع الحلفاء حول العديد من الصفقات السرية التي تمت بينها وبين كل من إيران وفنزويلا لإعادتهما إلى أسواق النفط على حساب اقتصادات الدول الحليفة. ويتوقع أن ترفع واشنطن عقوباتها جزئياً عن قطاع النفط الفنزويلي لإتاحة المجال أمام كراكاس للعودة التدريجية إلى أسواق النفط. وعلى المنوال عينه تمت قبل أيام صفقة بين واشنطن وطهران على هامش صفقة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل لرفع العقوبات جزئياً عن قطاع النفط الإيراني، بحيث يتاح لطهران تصدير ثمانمئة ألف برميل يومياً بدل أربعمئة غير خاضعة لنظام العقوبات. وبالرغم من تعثر مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، لا يزال البيت الأبيض يهرول خلف صفقة مع إيران غير عابئ بمصالح حلفائه التاريخيين في المنطقة، ما أدى إلى إبقاء العلاقات الأميركية – السعودية في الثلاجة. فلم تتحسن بعد ثلاثة أشهر على زيارة الرئيس بايدن للرياض في منتصف شهر تموز (يوليو) الماضي.
وبناءً على ما تقدم، يصح القول إن قرار "أوبك-بلس" تقني، لكنه سياسي أيضاً، ويحتاج الأميركيون والأوروبون إلى الجلوس مع حلفائهم حول الطاولة تداركاً لمزيد من التراجع في العلاقات. ويقيننا أن السعودية تبحث عن مصالحها بغض النظر عما يحصل في أوكرانيا أو مع روسيا. لكن واشنطن مدعوة إلى تغيير مقاربتها للعلاقات الثنائية، وسوف يتعين الانتظار إلى ما بعد الانتخابات النصفية للكونغرس في الشهر المقبل لرؤية ما يمكن فعله على هذا المستوى.