ثلاث مراحل دفعت ببريطانيا إلى الغرق في الفوضى السياسية والاقتصادية التي تشهدها اليوم. الأولى كانت الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، والثانية تفشي وباء كوفيد-19، والثالثة هي الحرب الروسية - الأوكرانية.

في ثلاث سنوات، شهدت بريطانيا تغيير ثلاثة رؤساء للوزراء: تيريزا ماي وبوريس جونسون وليز تراس. والآن عُهد بمهمة الإنقاذ أو على الأقل وقف التردي إلى وزير المال السابق في حكومة جونسون، ريشي سوناك، الذي برز نجمه مع خطة توفير مساعدات للبريطانيين إبان فترة الإغلاق في ذروة تفشي فيروس كورونا عام 2020.

أما اليوم، فالوضع مختلف نظراً إلى جسامة المهمة ووصول بريطانيا إلى حافة الركود، في مشهد يستعيد حقبة الأزمة المالية عام 2009، ولن تكون طريق سوناك سهلة المسالك. وزاد من الصعوبات المتراكمة في وجهه، الفشل الذريع الذي صادفته حكومة تراس قصيرة العمر وما تركته من آثار سلبية في الأسواق المالية وقيمة الجنيه، بعد نشر خطتها لخفض الضرائب، وتبديلها لوزير المال كواسي كوارتنغ الذي ألقت عليه بتبعة العيوب الفاحشة التي تخللت "موازنتها المصغرة".

والأمر الذي يزيد من خطورة الأوضاع، هو أن بريطانيا تعاني مثلها مثل أي دولة أوروبية من الانعكاسات السلبية لأزمة الطاقة التي تجتاح القارة والعالم، نتيجة المضاعفات السلبية الناجمة عن العقوبات المفروضة على روسيا، فضلاً عن التكلفة المادية التي تترتب على بريطانيا جراء إمداد لندن لكييف بالسلاح والمعونات الاقتصادية.

وما يواجهه البريطانيون من نسبة تضخم غير مسبوقة منذ عقود فاقت العشرة في المئة، تمثل معضلة لأي رئيس وزراء مهما يتمتع بكفاءات سياسية واقتصادية. وكلما اقترب الشتاء ستتصاعد احتجاجات المواطنين العاديين على ارتفاع فواتير الكهرباء. ومنذ أشهر تشهد قطاعات خدماتية كثيرة إضرابات للمطالبة بتحسين الأجور في مواجهة موجات الغلاء. وهذا ما يضع سوناك أمام تحديات لم يواجهها زعيم بريطاني منذ الحرب العالمية الثانية.

لا أحد في بريطانيا يملك عصا سحرية لمواجهة أزمة بهذا الثقل. وسرعان ما قد يجد سوناك نفسه في مواجهة انتخابات مبكرة، تظهر استطلاعات الرأي الأخيرة أن حزب العمال المعارض يتقدم فيها بفارق يصل إلى 30 نقطة على المحافظين. ولم يخفِ سوناك خلال اجتماع لحزب المحافظين قبل أيام، من أن الحزب يواجه "تهديداً وجودياً" في حال استمرار المأزقين السياسي والاقتصادي.

والذهاب إلى انتخابات مبكرة سيشكل استمراراً لسياسة عدم الاستقرار السياسي، التي ستنعكس بدورها تعميقاً للأزمة الاقتصادية، في مرحلة تحتدم فيها "حروب الطاقة" بين روسيا وأوروبا من جهة، وبين تحالف "أوبك+" والولايات المتحدة من جهة ثانية. والتوتر بين واشنطن والرياض دليل ساطع على عمق أزمة طاقة ربما لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ "الصدمة النفطية" عام 1973.

هل يمكن التعجيل في الحكم على حكومة سوناك وما يمكنها القيام به في الأيام والأسابيع المقبلة لاحتواء الأزمة وتقديم تطمينات للبريطانيين العاديين الذين يتنامى قلقهم مع اقتراب الشتاء؟ هذا أمر يحتاج إلى بعض التروي. لكن من المؤكد أن محاولات الزعماء البريطانيين والأوروبيين عموماً إلقاء اللوم والاتهامات في ما يتعلق بالأزمة على روسيا وحدها، قد لا يكون وحده كفيلاً بإقناع الناس بتقبل دفع المزيد من جيوبهم لتغطية أسعار الطاقة المرتفعة، ومساعدة أوكرانيا في الوقت نفسه، على الصمود في مواجهة الجيش الروسي.

عوامل كثيرة ومتشابكة أفضت ببريطانيا إلى هذه الأزمة. ولذا، يصعب تصور الخروج منها في حال استمرت الحرب الروسية - الأوكرانية واستفحلت أزمة الطاقة عالمياً. عندها لن تكون بريطانيا وحدها في أزمة مستعصية، وإنما ستكون دول أوروبية ومن خارج القارة، عرضة أيضاً لمزيد من الاهتزازات السياسية والاقتصادية.