منتصف هذا الشهر، أثناء قمّة مجموعة العشرين G-20 في بالي عاصمة إندونيسيا، ستتركز الأنظار على لقاء الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الصيني شي جينبينغ لقراءة ما إذا كان القائدان سيتوجّهان نحو المصالحة أو نحو المواجهة.

ستكون القمّة الثنائية موضع اختبار للرئيس الأميركي بالذات في أعقاب الانتخابات النصفية والمعركة المستمرة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري وتأثيرها في المزاج السياسي لبايدن في إطار السياسة الخارجية الأميركية. الرئيس الأسبق دونالد ترامب، بحسب ما يقول مقربون منه، سيلقي الأسبوع المقبل خطاباً رئيسياً حول رؤيته لكيفية استعادة عظمة أميركا، قد يعلن خلاله ترشّحه للرئاسة الأميركية، إنما سيركز فيه أساساً على دوره كقائد أوركسترا لمسيرة الحزب الجمهوري نحو الرئاسة على ضوء نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس، وسيتطرّق كذلك الى السياسة الخارجية الأميركية كما يتصورها.

ليس هناك خلاف رئيسي حول العناوين الأساسية للسياسة الخارجية نحو الصين وروسيا وأوروبا. فترامب لن يحَتجّ على مساعي مجموعة الدول الصناعية السبع G-7 لعزل روسيا في قمّة العشرين ولتجاهل وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي سيمثّل روسيا في قمة العشرين بدلاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. إنما مع بدء المعركة الرئاسية الأميركية، وبالرغم من أن الحرب بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي ستنصبّ على المسائل الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والعقائدية، ستكون للسياسة الخارجية حصّة بالذات في شأن دول مثل إيران. والسؤال الذي يُطرح هو: هل سيقرّر الرئيس بايدن أن إيقاظ الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA من الموت السريري سيخدم الاقتصاد الأميركي من خلال انخفاض أسعار النفط، وأن التوقيت مواتٍ بعد انتهاء الانتخابات النصفية؟

ليس سهلاً توقّع ما سيقوله دونالد ترامب لا سيّما أن الحلقة الضيّقة المحيطة به تحرص على سريّة ما سيتضمّنه خطاب الإعلان Announcement. ترامب عاد الى "تويتر" وقد يستبق نفسه بنفسه. لكن صعود نجم حاكم فلوريدا رون ديسانتيس في هذه الجولة من الانتخابات إنما ضاعف الاهتمام به كمرشح محتمل للجمهوريين لمنصب الرئاسة. فهو رجل ديناميكي، شخصيته لافتة ومتّزِنة، محبوب كسياسي، إنما قد يفتقد شعبوية ترامب وقد يقرّر أن مصلحته لا تكمن في تحدّي "الدونالد" الذي لديه وسائل السيطرة على الحزب الجمهوري وعلى الإعلام.

دونالد ترامب بدوره قد يقرّر أن الأفضل له أن يكون "صانع ملك" وأن يصبح "المايسترو" لسياسة وعقيدة وتصوّر ورؤية الحزب الجمهوري، وبالتالي أمامه مهمّة قيادة الحزب إيديولوجياً وعلى الصعيد الدولي، فيما يقوم ديسانتيس بالمهام المحلية الداخلية.

بغض النظر عما إذا قرّر دونالد ترامب أن يكون هو المرشح للرئاسة أو أن يقبل بترشيح ديسانتيس -والأرجح أنه سيترشح بنفسه- ما يريده هو أن ينفّذ تعهده بإعادة العظمة الى أميركا عالمياً وأن يطوّر تلك الرؤية بحداثة وعصرنة. هذا يعني، حسبما نقل أحد المقربين من المجموعة المحيطة بترامب، تبنّي أسلوب "البراغماتية القصوى" Maximum pragmatism للولايات المتحدة. يعني تبنّي سياسة خارجية "انتقائية" Selective تختار عدداً من الدول الرئيسية، وليس سياسة عالمية Global.

بالنسبة إلى روسيا، لن يتقدّم ترامب بسياسة بديلة عن سياسة بايدن طالما الحرب الأوكرانية مستمرة. انه مقتنع أنه لو كان رئيساً أثناء العد العكسي الى الحرب الأوكرانية، لكان تمكّن من إقناع بوتين بالعدول عن غزوه أوكرانيا، وهو يلوم بايدن على عدم تجنيب العالم مآسي وعواقب الحرب الأوكرانية من هذا المنطلق حصراً. أما في ما يخصّ السياسة الغربية الحالية نحو روسيا، فلن يعبر ترامب الخط الفاصل بعدما وصلت الأمور الى ما هي عليه.

في ما يتعلّق بالصين، الأمر يعتمد على كيفية تطوّر الأمور المعنية بتايوان. هنا أيضاً، ليس هناك فارق جذري بين الجمهوريين والديموقراطيين، فكلاهما لا يوافق الصين على سياساتها نحو تايوان، وكلاهما يخشى المأزق الذي ستضع الصين الولايات المتحدة فيه.

الرئيس الصيني للولاية الثالثة ازداد ثقة بنفسه وهو يتأبّط الدعم الكامل له من المؤسسة العسكرية كما من البولتبيرو الذي أغدق عليه الصلاحيات الكاملة. ثم أن انشغال الولايات المتحدة بالحرب الأوكرانية وبالمعركة الانتخابية يفسح المجال للمغامرة بالتشدّد وبالتحدي في مسألة تايوان. ولذلك، ليس مستبعداً أن يضع الرئيس الصيني نظيره الأميركي أمام الأمر الواقع أثناء لقائهما في بالي وهو يلوّح بما تسميه الصين "عملية تحرير تايوان".

ما سيطالب به الرئيس الصيني هو أن تتوقف الولايات المتحدة عن الوجود في تايوان، بكل آفاق ذلك الوجود الفعلي والمعنوي... وإلا، عملية "التحرير". مثل هذه الأزمة ليس سهلاً على بايدن في خضمّ المعركة الانتخابية نظراً لتداعيات جديّة أي من الحالتين: المصالحة أو المواجهة. لكن الرئيس بايدن ليس بمفرده في المأزق، إذا وقع. فالجمهوريون والديموقراطيون في خانة واحدة عندما يتعلق الأمر بالصين وتايوان.

الأمر الآخر الذي سيسترق الانتباه أثناء قمّة العشرين الأسبوع المقبل هو المعركة المرتقبة بين مجموعة السبع G-7 ومجموعة العشرين G-20 في ما يتعلق بأوكرانيا وروسيا. وفي المعلومات أن قادة الدول السبع- الولايات المتحدة، وكندا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، وبريطانيا، وكذلك الاتحاد الأوروبي قرّرت التطرّق الى أوكرانيا بإدانة لروسيا، كما قرّرت تجاهل سيرغي لافروف تقزيماً لروسيا.

لكن دولاً كبرى أعضاء في قمّة العشرين G-20 مثل الصين وإندونيسيا والهند لا تريد إدانة روسيا ولا تريد التركيز على أوكرانيا. هذه المواقف لها دلالة آنية وبعيدة المدى ليس بالضرورة دعماً لبوتين وإنما اعتراضاً على نهج الغرب نحو روسيا. هذه الدول لا توافق تصوّر وزيرة خارجية ألمانيا، مثلاً، أن تكون أوروبا الغد بلا روسيا Europe without Russia.

السعودية هي العضو العربي الوحيد في مجموعة العشرين التي تضم الى جانب دول مجموعة السبع كلاً من الصين والهند وروسيا وإندونيسيا والأرجنتين وتركيا وأستراليا والمكسيك والبرازيل وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية وهولندا. الطاقة سيكون لها وجود في القمّة، لكنها لن تكون طاغية عليها. فالأسعار بدأت تنخفض لأسباب عديدة من أبرزها أن الاستهلاك في الصين انخفض كثيراً بسبب سياسة الصين نحو "كوفيد" المعروفة بـ"صفر تحمّل" Zero tolerance وما ترتّب عن ذلك من قيود على الحركة الاجتماعية. وبالتالي، لم تعد الصين متعطِشة للنفط كما كانت.

الأزمات الإقليمية ستجد طريقها قليلاً الى قمّة العشرين، وأبرزها الأزمة الكورية. إيران قد تحضر في القمّة بصورة متواضعة لأن قادة مجموعة العشرين لن يتخذوا موقفاً من التطورات الداخلية، فيما قد يرغبون بالتعبير عن الأمل بإحياء الاتفاقية النووية.

اليوم وبعدما تضاءلت فرص إحياء الاتفاقية النووية، هناك تساؤلات عما إذا كانت إدارة بايدن ستقرّر الإيحاء لطهران بإمكان إحياء المفاوضات إذا ما تراجعت طهران عن مواقفها. لكن دخول إيران طرفاً مباشراً في الحرب الأوكرانية يحول دون مثل هذا الاحتمال. ثم إن الحزب الجمهوري الذي ستكون له الأكثرية في مجلس النواب سيتربّص لإدارة بايدن ويكبّل أياديها نحو إيران.

فالحرب الأوكرانية هي المهيمنة على السياسة الدولية وعلى السياسة الأميركية. مستشار الأمن القومي الأميركي جايك سوليفان زار كييف الأسبوع الماضي لاستنباط مدى استعداد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لوقف النار والتوصّل الى اتفاقية سلام، مشدّداً على أن القرار عائد الى الأوكرانيين وحدهم. زيلينسكي عبّر عن شروطه لوقف النار والتفاوض لكن ليس بينه وبين بوتين، وإنما على مستوى أقل. واقع الأمر أن وقف النار بعيد لا سيّما على ضوء التطورات الميدانية. فلا بوتين ولا زيلينسكي يرى أن ذلك في مصلحته حالياً.

وكما نقل مصدر وثيق الاطلاع، ليس صحيحاً أن الرئيس جو بايدن ضاق ذرعاً بنظيره الأوكراني لدرجة الصراخ بوجهه في الأسابيع القليلة الماضية. حدث ذلك في شهر حزيران (يونيو) الماضي وليس مؤخراً، ولم يتكرّر منذ ذلك التاريخ. فإدارة بايدن كما الحكومات الأوروبية لا تجد وسيلة الآن للخروج من الحرب الأوكرانية ولا هي جاهزة للضغط على زيلينسكي للتنازلات الكبرى. فالعالم ما زال يترنّح على الحرب الأوكرانية، وسياسات الدول تتكئ على إفرازاتها.

أما السياسة الأميركية الخارجية العريضة، فإنها لن تتغيّر سوى بعض الشيء وجزئياً. فما حدث في الانتخابات النصفية إنما يدخل في سياق الانقسام الداخلي حول المسائل الداخلية الأكثر أهمية للناخب الأميركي، الاقتصادية والاجتماعية. ولعلّ أحد جوانب ما أفرزته هذه الانتخابات هو حاجة الأميركيين الى حيوية جديدة وقيادة شابة للمرحلة المقبلة- بدءاً بالمعركة الانتخابية.