في حفل العشاء الترحيبي الذي أقامه مركز الإمارات للسياسات، للمتحدثين في ملتقى أبوظبي الاستراتيجي التاسع، الذي نظمه المركز الأسبوع الماضي، قال لي الدبلوماسي الإيطالي السابق، ماركو كارنيلوس، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة «إم سي جيوبوليسي» الإيطالية للاستشارات، إنه معجب بالإمارات، فهو كلما غاب عنه فترة، ثم عاد إليه، وجد فيه شيئاً جديداً.

كان العشاء مقاماً في الساحة الخارجية المفتوحة لأحد مطاعم فندق قصر الإمارات، ليلة انعقاد المؤتمر، وكانت المباني الشاهقة الممتدة على كورنيش أبوظبي، تطل بأضوائها الساطعة، مضفية على المكان لمسة باهرة. سألته عن آخر زيارة قام بها لدولة الإمارات، فقال إنها كانت قبل ثلاث سنوات. لم تكن مدةً طويلة بمقياس الزمن، خاصة أنها كانت في زمن جائحة فيروس «كورونا» المستجد، ومع هذا، لاحظ أن هناك جديداً بين الزيارتين. قلت له: إننا، نحن في دولة الإمارات، نشعر بهذا التغيير كل يوم، فالإمارات في حركة دائبة، لا تتوقف أبداً.

حتى في زمن الجائحة، التي توقفت الحياة خلالها في الكثير من دول العالم، كان العمل هنا مستمراً. بدا لي هذا الحوار توطئةً للجلسة الأولى في الملتقى، التي تشرفت بإدارتها في اليوم التالي، وكانت المتحدثة فيها الدكتورة ابتسام الكتبي رئيسة المركز.

كان من الطبيعي أن يبدأ الملتقى بتسليط الضوء على رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وهو ينعقد هذا العام في ظل رئاسة سموه، التي بدأت في شهر مايو من العام نفسه، حيث يقود سموه دولة الإمارات إلى الإقلاع لعصر ما بعد النفط، وصناعة مستقبل تتوسع فيه ركائز جاذبية النموذج الإماراتي، وتتعمق فيه عناصر بناء القوة، وتترسخ أسسٌ أمتنُ للمرحلة الثالثة من مراحل دولة الإمارات، مرحلة الريادة والارتقاء في معايير التنافسية والصعود إلى المستقبل، وذلك بعد أن قاد المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مرحلة التأسيس، وقاد المغفور له، الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، طيب الله ثراه، مرحلة التمكين. لهذا كان عنوان الجلسة «الإمارات العربية المتحدة بقيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد: الصعود إلى المستقبل».

سعت الجلسة إلى تسليط الضوء على رؤية سموه، ودوره على مدى سنوات طويلة في تطوير الدولة والمجتمع، وتعزيز أهداف التنمية المستدامة للمنطقة والبيئة الدولية. وكانت محاور الحديث فيها، تدور حول كتاب الدكتورة ابتسام الكتبي «نموذج دولة الإمارات في بناء القوة.. رؤية محمد بن زايد»، الصادر عقب تولي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد رئاسة دولة الإمارات، مسلطاً الضوء على المبادرات الكبرى التي قادها سموه على مدى الحقبة الماضية، وعلى مشروع سموه لإمارات المستقبل خلال الأعوام المقبلة، وهي، كما أطلقت عليها الدكتورة ابتسام «وصفة»، أسس لها الشيخ محمد بن زايد، من خلال رؤية سموه «مئوية الاتحاد».

وإذ يسلط الكتاب الضوء على عوامل ومؤشرات تحوّل دولة الإمارات إلى قوة إقليمية فاعلة، فإنه يقدم قراءة منهجية متماسكة للتحولات والإصلاحات الاستباقية، التي اتخذتها دولة الإمارات، استعداداً لحقبة ما بعد النفط، وفي سياق التخطيط لمرحلة ما بعد مرور 50 عاماً على تأسيسها وقيام اتحادها. هنا، نستذكر مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، خلال القمة الحكومية التي عقدت عام 2015 في دبي، عندما قال سموه: «إننا سنحتفل عند تصدير آخر برميل للنفط بعد 50 عاماً، وإن رهاننا الحقيقي في هذه الفترة، وعندنا خير، أن نستثمر كل إمكاناتنا في التعليم».

طرحت الدكتورة ابتسام في مقدمة كتابها أسئلة عدة، عن الكيفية التي نقل بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، دولة الإمارات من موقع دولة صغيرة، إلى لاعب إقليمي ودولي مؤثر، وعن معايير قوة الدول، وإن كان من الأجدى اعتماد معايير نوعية، بدلاً من المعايير الكمية، لدى المقارنة بين قوة الدول، وهل يمكن اعتبار دولة الإمارات نموذجاً، وعن الروح التي تسري في رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، لتقوية موقع دولة الإمارات ومكانتها وريادتها، وعن العناصر المهمة التي تمتلكها دولة الإمارات في نموذج القوة الخاص بها، وعن ركائز النموذج الإماراتي في بناء القوة، والاستعداد للمستقبل، وعن الكيفية التي تغلبت بها دولة الإمارات على الجغرافيا، التي جعلت منها صغيرة المساحة، كي تصبح دولة مؤثرة.

في الإجابة عن هذه الأسئلة، التي طرحها الكتاب، نستطيع أن نقدم تفسيراً للتغيير الذي يلاحظه صديقنا الإيطالي، كلما غاب عن الإمارات فترة ثم عاد إليها، وفيها نستطيع أن نجد ركائز جاذبية النموذج الإماراتي، وملامح قوتي الإمارات الناعمة والصلبة معاً.