لنعد إلى سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989م، الذي سقطت معه رمزية مرحلة مهمة من علاقات الدول السياسية، واعتقد العالم الأقوى في مرحلة الحرب الباردة أنه سيطرة على الثقافات والمجتمعات، واعتمد في ذلك على الكم الهائل من أدوات المواجهة التي كانت سائدة بين الأقطاب المتنافسة، لم يكن سقوط جدار برلين سوى بداية جديدة لصعود شكل جديد من المواجهات التي كانت غير قادرة على الظهور خلال الحرب الباردة، فقد تغيرت لغة المواجهة من تلويح نووي إلى تلويح ثقافي شديد العمق وأصبحت الثقافات العالمية المتنوعة على استعداد تام لتلقي الضربات ومواجهاتها.

لم يكن هناك تفسير دقيق لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولكن العنوان الذي اتفق عليه الجميع أن الثقافات والمجتمعات أصبحت جزءا مهما من صراع دولي سيعبر بالعالم في ممرات ضيقة خلال القرن الحادي والعشرين، وبدأت ملامح تطور نظرية النزعة الثقافية تتشكل، وكان لا بد من تجربة جريئة تمثلت في حرب أميركا على العراق، لقد اختلطت المفاهيم وسقط برج الرأسمالية والشيوعية مع سقوط برج التجارة العالمي وأصبحت أميركا تنظر وتسير بأقدامها الثقافية بدلاً من السير بعقلها الرأسمالي، في مواجهة الرأس الشيوعي، وأكبر الأدلة تمثلت في غزو أفغانستان والعراق، لقد كانت مرحلة دقيقة وحساسة ومربكة عندما قررت أميركا أن تنظر إلى موطئ أقدامها وهي تسير على كوكب الأرض.

لم يكن ما حدث خطأ أميركا بالدرجة الأولى، ولكن الفراغ القطبي في العالم لا يمكنه أن يبقى فارغا، فكان لا بد من تحولات دقيقة، وهكذا فعلت أميركا، فالإحساس بالتفرد أخطر في نتائجة من الإحساس بالشركات والتحالفات بين الدول، وبدا أن الصين منافس محتمل في القسم التجاري العالمي، فالصين لم تقدم نفسها للعالم كنزعة ثقافية يمكنها المنافسة أيديولوجيا، لقد ثبت أن العالم بأكمله قد تشرّب الثقافة الغربية بطريقة عميقة إلى درجة أنه لا يمكن السماح لأي فكرة بالمرور عند مناقشة بدائل الثقافة الغربية والرأسمالية، لا أحد يستطيع منافسة أميركا، هكذا تقول القاعدة العالمية اليوم، ولكن الجميع اليوم يستطيع أن يثير الأسئلة الدقيقة وينتقد أميركا والغرب.

من هذا المسار يبدو أننا أمام مهمة جديدة لإعادة تعريف نظرية النزعة الثقافية المتمثلة في مواجهات قيمية تسود العالم، الثقافات العالمية المتعددة الموجودة على كوكب الأرض محاطة بالكثير من المفاهيم المحلية والعقدية والفكرية التي يصعب تفكيكها، قد تستطيع السياسية تفكيك التحالفات وبناء الشراكات وتغيير اتجاهات الدبلوماسية، ولكن النزعة الثقافية للمجتمعات تبدو أكثر تعقيداً مما نتصوره، ولعل أقرب الأمثلة مشهد الصراع القيمي الذي كشفت عنه أحداث كأس العالم الذي بمجرد انتقاله جغرافيا إلى ثقافة مختلفة عن ثقافة الغرب التي ولد فيها كأس العالم اكتشفت الثقافات الغربية أنها ليست مقبولة ولا يمكنها العيش كما تصورت في أي بقعة من هذا العالم.

هذه الفكرة تعيدنا إلى سؤال مهم.. كيف يحتمي العالم غير الغربي بالثقافة الغربية بينما هو يهاجمها بمجرد أن تمس هذه الثقافة محيط القيم والمعايير والثقافات الدقيقة، للإجابة الواضحة عن هذا السؤال لا بد من الفهم الدقيق أن الغرب بأكمله وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية كان يعتقد أنه يصنع نموذجا مثاليا للحياة تتفوق فيه الحريات الإنسانية المعتدلة والمنحرفة معاً، وكان الغرب يعتقد أنه المثال الأعلى الذي تتطلع الشعوب إلى تقليده، ولكن بمجرد توسع الحركة الاقتصادية في العالم وبروز مجتمعات متطورة بنمو اقتصادي وثقافي وسياسي جديد، فقد اكتشف الغرب أنه صنع ثقافة لديها جوانب أخلاقية غاصت بالوحل الثقافي وأصبحت عاجزة عن الخروج منه.

نظرية النزعة الثقافية أعني بها قدرة المجتمعات غير الغربية على تفكيك الثقافة المتطورة إلى قسمين، قسم فوق سطح الأرض يتمثل في التقدم الاقتصادي والسياسي والتقني والحضاري، وقسم تحت وحل الأرض يتسم بقيم وأخلاق تسهم في تحويل الإنسان آلة نموذجها يشبه الحيوان في قيمه وأخلاقه وتصرفاته كما هي قيم المثلية ومجتمع (الميم) الذي تروج له بعض الثقافات الغربية وتدعو لقبوله والاعتراف به.

من يتوقع أن هزيمة النزعة الثقافية للمجتمعات غير المتوافقة مع ثقافة الغرب أمر سهل، وأن الغرب قادر بمكينته السياسية على الترويج لنزعاته الثقافية الخاصة والدقيقة التي تمس الأخلاق والعقائد، سوف يكتشف أن ما حدث في الحرب الأوكرانية - الروسية وكأس العالم في قطر ومداولات وسائل التواصل الاجتماعي والتواصل الرقمي، يشكل دليلا قاطعا أنه بات على الثقافات الغربية أن تدرك أن قدرات النزعة الثقافية لدى مجتمعات العالم غير المتفقة مع الغرب هي أقوي بثقافتها ومنهجها بشكل عنيد.