تبني سياسات خاطئة أو متعارضة أمر شائع في كل الدول، ولكن مقدار التخبط والتناقض في سياسات الدول الأوروبية حالياً تاريخي بكل المقاييس. في هذه المقالة أستعرض بعض الأمثلة من أرض الواقع لبيان هذه الفكرة.
تحديد سقف سعري للنفط والغاز
قاعدة عامة وصحيحة في أي وقت: لا يمكن لأي سقف سعري أو تسعير حكومي أن يكون له أي أثر إلا إذا كان أقل من سعر السوق. فإذا كان أعلى من سعر السوق فوجوده مثل عدمه.
مجموعة السبع تحاول، وبضغوط أميركية، تحديد سقف سعري لصادرات النفط الروسي بحجة خفض كمية الأموال التي تحصل عليها حكومة الرئيس بوتين كي لا يستخدمها في تمويل الحرب في أوكرانيا.
وقبل الحديث عن السقف السعري لا بد من التذكير بأنه بعد أسبوع من الآن، سيوقف الاتحاد الأوروبي وارداته النفطية من روسيا رسمياً، وأن الولايات المتحدة توقفت رسمياً عن استيراد النفط الروسي منذ أشهر. هذا يعني أن السقف السعري الذي ستفرضه أوروبا وأميركا على صادرات النفط الروسي هو للدول الأخرى، بخاصة الهند والصين وتركيا ودول "أوبك +".
لاحظوا أنني استخدمت كلمة "رسمياً" مرتين أعلاه، وذلك لأن النفط الروسي سيصل إلى أوروبا على كل الحالات، بطريقة أو بأخرى.
كل المعلومات الصادرة عن اجتماعات مجموعة السبع تشير إلى أن السقف السعري سيكون بين 65 دولاراً و70 دولاراً للبرميل. هذا السقف السعري لا تأثير له في أرض الواقع، لأن سعر النفط الروسي في السوق نحو 50 إلى 55 دولاراً للبرميل حالياً. يرى بعضهم أن هذا السعر سيكون فعّالاً عندما ترتفع أسعار النفط، لكن نظرة سريعة إلى أسعار النفط نجد أنه نظرياً، لن يبدأ تأثيره إلا إذا تجاوزت أسعار خام برنت 100 دولار للبرميل، علماً بأن الأسعار الحالية تقترب من 80 دولاراً للبرميل.
لكن لنفرض أن الأسعار ارتفعت، ولنفرض أن السقف السعري له أثر في السوق، كيف ستجبر ألمانيا الشركات الهندية على شراء النفط من الشركات الروسية بالسعر المحدد أو أقل منه، وهي شركات لا تستخدم شركات التأمين الأوروبية؟ وكيف ستتأكد الولايات المتحدة من بيانات السفن وشهادات المنشأ والتسعير؟ ولماذا سترضى الصين والهند وتركيا بأن تخضع سفنها للسيطرة الأميركية؟
وماذا لو نفذت روسيا تهديدها وأوقفت صادرات النفط التي تتبنى السقف السعري على كل الحالات؟ ألن يؤدي هذا إلى إجبار هذه الدول على شراء النفط من السوق بالأسعار العالمية؟ وماذا لو أدى السقف السعري إلى انخفاض إنتاج روسيا على كل الحالات، ألا يؤدي ذلك إلى رفع أسعار النفط عالمياً، بالتالي خسارة الدول الأوروبية؟
من ناحية أخرى تحاول دول الاتحاد الأوروبي تطبيق سقف سعري للغاز في دول الاتحاد. المشكلة أنها اختارت سقفاً أعلى من سعر السوق بكثير، ومن ثم فلا أثر له، وحتى لو ارتفعت أسعار الغاز المسال بشكل كبير، فإن الشروط التي وضعوها لتطبيق السقف السعري صعبة، ومن ثم فإنه لن يطبق.
لكن لنفرض حدوث أزمة إمدادات عالمية لفترة طويلة، وارتفعت أسعار الغاز المسال فوق السقف السعري، فماذا سيحصل؟ الأمر الأول هو تحويل شحنات الغاز المسال إلى الأسواق الآسيوية حيث الأسعار الأعلى، الأمر الذي ينتج منه شح الإمدادات في أوروبا وارتفاع الأسعار فوق السقف السعري.
بعبارة أخرى، ستكون هناك أسعار مرتفعة، لكن الغاز لن يكون موجوداً بالأساس. الأمر الثاني عدم تشجيع الشركات على الاستثمار في البنية التحتية للغاز وللغاز المسال، وهذا يؤدي إلى عجز في الإمدادات على المديين المتوسط والبعيد، حتى لو انخفضت الأسعار لاحقاً إلى مستويات أدنى من الحد السعري.
فرض ضرائب استثنائية على أرباح شركات الطاقة
فرض بعض الدول الأوروبية، بخاصة بريطانيا، ضرائب استثنائية على أرباح شركات الطاقة، تحديداً شركات النفط. هذه الضرائب مثال آخر على تخبط وتعارض سياسات هذه الدول.
تهدف الحكومة البريطانية إلى زيادة توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة، خصوصاً الطاقة الشمسية والرياح، كما تهدف إلى زيادة إنتاج النفط والغاز من بحر الشمال.
من ناحية أخرى، تهدف شركات النفط إلى انتهاز فرصة أسعار النفط والغاز المرتفعة، لتعزيز موقفها المالي وثقة المستثمرين بها من جهة، وزيادة الاستثمار في النفط والغاز والطاقة المتجددة من جهة أخرى. هذا يعني أن هناك توافقاً بين سياسة الحكومة والشركات في ما يتعلق بالتركيز على زيادة إنتاج النفط والغاز والطاقة المتجددة.
إلا أن المشكلة أن السياسيين يحاولون أن يرضوا الناخبين، لهذا قررت الحكومة تقديم إعانات مالية للتخفيف من أثر ارتفاع أسعار الطاقة، بخاصة المنتجات النفطية والغاز. لماذا تعد هذه مشكلة؟ لأنه لا بد من حصول الحكومة على مصدر تمويل لهذه الإعانات. فقامت بفرض ضرائب استثنائية على أرباح شركات النفط والغاز لتمويل الإعانات، وهنا يظهر تخبط السياسات الأوروبية في أبهى صوره: فرض هذه الضرائب يعني في النهاية انخفاض إنتاج النفط والغاز، وعدم نمو الطاقة الشمسية والرياح. باختصار، فرض هذه الضرائب منع الحكومة من تحقيق أهدافها في التوسع في الطاقة المتجددة وإنتاج النفط والغاز.
فرض هذا النوع من الضرائب يعني أن الشركات خسرت جزءا كبيراً من أرباحها، الأمر الذي ينتج منه انخفاض الاستثمار في بحر الشمال، وتحويل الشركات مشاريعها إلى مناطق أخرى، الأمر الذي يعني، على الأقل، عدم زيادة الإنتاج على رغم ارتفاع أسعار النفط.
إلا أن المشكلة الأكبر أن شركات النفط قررت الاستثمار في مشاريع الطاقة المتجددة بشكل كبير، لكن أخذ الحكومة لأرباحها يعني أنها لن تقوم بالاستثمار في الطاقة المتجددة! وبهذا أفشلت الحكومة نفسها بنفسها، خصوصاً أنها أخذت الأموال المخصصة لمكافحة التغير المناخي، وأنفقتها على إعانات للتخفيف من تكاليف الوقود الأحفوري، وتحديداً البنزين والديزل! أضف إلى ذلك أن هذه الإعانات تسهم في منع الطلب على النفط من الانخفاض، وربما زيادته، ومن ثم ارتفاع معدلات الانبعاثات التي تسهم في حدوث التغير المناخي. إذا لم يكن هذا تخبطاً في السياسات، فما التخبط إذاً؟
التعليقات