انتهت بالأمس كأس العالم، بعد أربعة أسابيع من المتعة غير المنقطعة، في بطولة شهدت العديد من الأولويات، فهي أول كأس عالم تقام في دولة عربية، وهي أول كأس عالم تقام في فصل الشتاء، بعد 92 سنة من إقامتها في فصل الصيف، وفيها شهد العالم وصول أول دولة عربية وأفريقية لنصف النهائي.

بطولة شهدت تنظيماً رائعاً من قطر، لم تشهد مشاكل أمنية، ولا مشاجرات كتلك التي تحدث في أي بطولة كروية كان آخرها بطولة اليورو 2020 والتي شهدت مباراتها النهائية مشاجرة عنيفة بين الإيطاليين والإنجليز. بدأت البطولة كما انتهت، باحتفالية رائعة عبرت عن أجواء كأس العالم، وفرحة متابعي كرة القدم، وبانتصار تاريخي للأرجنتين، بعد 36 عاما من غيابها عن الفوز بكأس العالم، وحمل (ميسي) كأس العالم، ليكون خلفاً لـ(مارادونا) آخر من حقق كأس العالم مع الأرجنتين، في نهائي قد يكون الأفضل في تاريخ نهائيات كأس العالم، بستة أهداف، و120 دقيقة، لم تدخل الملل إلى المتابعين، حبست فيها الأنفاس حتى اللحظات الأخيرة.

فوز الأرجنتين بالكأس من مصلحة اقتصاد العالم، هذه جملة قد تبدو ضربا من المبالغة، ولكن هذا ما توضحه الأرقام والدراسات التي درست البيانات الاقتصادية للفرق الفائزة بكأس العالم منذ 1961. فبحسب دراسة أجرتها جامعة (سري) البريطانية، تحقق الدول الفائزة بكأس العالم نموا اقتصاديا بنسبة 0.25 في الربعين التاليين للفوز بكأس العالم. وإذا كانت المقارنة بين فرنسا والأرجنتين، فالأخيرة أحوج ما تكون للفوز بكأس العالم بالنظر إلى حالتها الاقتصادية، وهي التي يكاد التضخم فيها يصل إلى 100 في المائة هذا العام، أما فرنسا ومع معاناتها مع التضخم وأسعار الطاقة، فلم تصل حالتها الاقتصادية إلى السوء الذي وصلته الأرجنتين، لا من قريب ولا من بعيد.

ليس هذا هو السبب الوحيد الذي يجعل فوز الأرجنتين من مصلحة اقتصاد العالم، فالبيانات وضحت أن فرنسا لا تستفيد اقتصاديا من الفوز بكأس العالم. فمنذ كأس العالم 1994 حتى الآن، فازت البرازيل مرتين بكأس العالم، في أول مرة عام 1994، حققت البرازيل نموا اقتصاديا في ذلك العام بنسبة 5.9 في المائة، أكثر من العام السابق والتالي لهذا الإنجاز، أما في عام 2002، حين حققت البرازيل كأسها الثانية خلال تلك الفترة، فقد وصل نموها الاقتصادي إلى 3.1 في المائة، مقارنة بـ 1.4 في المائة في عام 2001 و1.1 في المائة عام 2003. وحتى إيطاليا، حين فازت بكأس العالم 2006، فقد كان نموها الاقتصادي لذلك العام 1.8 في المائة، أعلى من العامين السابق والتالي لفوزها بالكأس. أما فرنسا، والتي فازت بكأسي عالم في عامي 1998 و2018، فقد حققت نموا في 1998، على الأرجح بسبب استضافتها لكأس العالم في تلك النسخة، ولكن نموها الاقتصادي في 2018 لم يتأثر على الإطلاق بعد أن فازت بكأس العالم، وعلى الأرجح فإنه لم يكن ليتأثر لو فازت فرنسا في هذه النسخة، لأسباب منها أن فرنسا هي حاملة اللقب، ولن يكون فوزها ذا تأثير كبير لانعدام عامل المفاجأة.

الدراسات أوضحت أن النمو الاقتصادي للبلد الفائز بكأس العالم له عدة أسباب، منها أن ازدياد الاستهلاك المحلي بسبب الاحتفالات وتحسن الحالة النفسية للشعب، يؤدي إلى زيادة الإنفاق المحلي. كذلك أوضحت الدراسات أن صادرات البلد تزيد للبلد الفائز بكأس العالم، وذلك لأن الفوز يعزز من قوة العلامات التجارية، هذه النتيجة اتضحت بشكل جلي لصادرات البرازيل بعد فوزها بكأس العالم 2002. ليس ذلك فحسب، بل توضح الدراسات أن الدول التي تتأهل لربع النهائي بشكل مفاجئ تتحسن صادراتها بسبب التفات المستهلكين لها، ويعني ذلك أن صادرات المغرب قد تتحسن في الربعين القادمين، والمغرب هي أول دولة عربية وأفريقية تصل إلى نصف النهائي، وليس ربع النهائي فقط.
لو كان الفوز بكأس العالم ليؤثر إيجابيا على اقتصاد دولة، فهي الأرجنتين وليست فرنسا، فالأثر الإيجابي سيكون أكبر على الشعب وعلى الصادرات، بحسب الدراسات.

صحيح أن هذا الفوز لن يتسبب في نقلة للاقتصاد الأرجنتيني الذي يعاني من عشرات السنين، ولكنه بكل تأكيد سيؤثر إيجابيا على الاقتصاد الأرجنتيني ولو لفترة وجيزة، على الأغلب أن هذا الأثر سيظهر في عام 2023، وليس في نفس العام الميلادي، بسبب أن البطولة تقام لأول مرة في فصل الشتاء آخر العام الميلادي. أما فرنسا فقد فازت بالنسخة الماضية ولم يتأثر اقتصادها على الإطلاق، ولذلك فمن الناحية الاقتصادية البحتة، فإن فوزها بكأس العالم ليس ذا فائدة. مبارك للأرجنتين كأس العالم، وللمغرب الإنجاز التاريخي بنصف النهائي، وللدول العربية المستوى المشرف، ولقطر التنظيم الذي سيتحدث عنه العالم لسنوات وسنوات، والذي رفع سقف التوقعات في النسخة القادمة التي ستستضيفها الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.