من المؤسف بداية ان يتحوّل الشغور الرئاسي إلى قاعدة لدى انتهاء كل ولاية رئاسية منذ العام 2005، حيث يتحوّل التعطيل إلى السلاح الذي يستخدمه محور الممانعة في هذا الاستحقاق بهدف انتخاب رئيس من صفوفه، في تعطيل متمادٍ للدستور وللآلية الديموقراطية التي يجب الاحتكام إلى نتائجها، في نظام يفترض انّه ديموقراطي الطابع، علماً انّ المعارضة كانت أكّدت مراراً وتكراراً، استعدادها الاحتكام إلى صندوقة الاقتراع في مجلس النواب، وخيّرت الفريق الآخر بين انتخاب مرشحها طالما انّها لم تتبنَّ أي مرشّح، وبين ان تخوض الانتخابات بمرشّح ممانع ويربح من يربح، وبين ان تطرح أسماء توافقية، ولكن لا حياة لمن تنادي، إنما مزيد من الإصرار على شراء الوقت بالرهان على ظروف ومتغيّرات تسمح للممانعة بانتخاب رئيس من صفوفها، الأمر الذي لا مؤشرات داخلية ولا خارجية هذه المرة إلى إمكانية تحقيق مثل هذا الأمر.

وعلى رغم الانسداد في الأفق الرئاسي بفعل عدم إمكانية المعارضة ولوج عتبة النصف + 1 الذي يجعلها في موقع قوة تضع فيه الفريق الآخر في موقع المعطِّل بشكل عملي، وتُطلق دينامية انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وعلى رغم انّ الأزمة الرئاسية الفعلية سببها خلافات مكونات محور الممانعة وعدم قدرتها على الاتفاق على مرشّح رئاسي وسعيها إلى التغطية على أزمتها بالهروب إلى الأمام في دعوات للحوار من أجل تحميل مسؤولية الشغور لفشل الحوار المحسوم في التوصُّل إلى نتيجة، خصوصاً انّ المسؤولية تقع على من يرفض الالتزام بالدستور لجهة التقيُّد بالمهلة الدستورية لانتخاب الرئيس التي تمّ تجاوزها، ولناحية تطيير النصاب بشكل متواصل، فيما المسؤولية الأساسية تقع على مجلس النواب في انتخاب الرئيس من خلال الانتخاب لا الحوار، ولكن على رغم كل ذلك، فإنّ الشغور هذه المرة، اي شغور 2022، يختلف عن شغور المرة السابقة، 2014، في ستة عوامل أساسية:

العامل الأول مالي الطابع، حيث أنّ الأزمة المالية التي تعصف بالبلاد لا تسمح بشغور طويل الأمد، وتضع كل القوى السياسية وتحديداً الفريق الذي يستخدم التعطيل، وسيلة لتحقيق أهدافه السلطوية تحت ضغط هذه الأزمة التي لا يمكن الخروج منها تدريجاً سوى من خلال إعادة إنتاج سلطة متكاملة تتمتّع بثقة وصدقية داخلية وخارجية، وبما يمكِّنها من وضع السياسات التي تفسح في المجال أمام استقطاب المساعدات والاستثمارات والرساميل.

والفارق بين الشغورين هو الأزمة المالية التي أسقطت ترف الوقت الذي شكّل أحد الأسلحة المستخدمة منذ العام 2005 في الاستحقاقات الرئاسية والحكومية، وقد يقول قائل انّ الفريق الممانع لا يكترث للواقع الانهياري أمام إمساكه بمفاصل السلطة، وهذا صحيح، ولكنه يخشى في حال تواصل الانهيار من طرح جوهر الأزمة اللبنانية المتمثِّل بسلاحه ودوره والذهاب فعلاً إلى مؤتمر دولي، وبالتالي تجنباً لخسارة كبرى وموصوفة يفضِّل الحدّ من الخسائر.

العامل الثاني حكومي الطابع، حيث انّ التدبير الذي اتخذته حكومة الرئيس تمام سلام حولّها إلى حكومة كاملة المواصفات، تلتئم في اجتماعات أسبوعية وكأنّ لا فراغ رئاسياً ولا من يحزنون، الأمر الذي أفسح في المجال أمام تسيير شؤون الدولة بشكل طبيعي، وأسقط عامل الإلحاح بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، وأفسح في المجال أمام الفريق المعطِّل للاستحقاق الرئاسي في تهيئة الظروف التي تتيح له إبقاء الشغور مفتوحاً بشرط انتخاب رئيس من صفوفه.

والفارق هذه المرة يكمن في التشدُّد الحاصل لجهة عدم جواز اجتماع الحكومة سوى في الحالات الطارئة جداً، الأمر الذي يُبقي عامل الإلحاح بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية.

العامل الثالث نيابي الطابع، حيث انّ الهيئة العامة لمجلس النواب كانت تلتئم تحت عنوان تشريع الضرورة، وكان المجلس يواكب تشريعياً عمل الحكومة التي واصلت عملها المعتاد وفق الصيغة التي تمّ ابتداعها، الأمر الذي أفسح في المجال، بشكل أو بآخر، أمام تسيير الأمور من دون الحاجة إلى وجود رئيس للجمهورية.

والفارق هذه المرة يكمن في التشدُّد أيضاً لناحية رفض التئام الهيئة العامة التي تحولّت بموجب الدستور إلى هيئة انتخابية لا تشريعية، الأمر الذي بدوره يُيقي التركيز على الانتخابات الرئاسية التي من دون إتمامها تبقى السلطات الدستورية معطلة، لأنّه من غير المنطقي ولا الجائز ولا الدستوري ان تعمل المؤسسات الدستورية بشكل طبيعي في غياب رأس الدولة، كما في غياب أي مؤسسة أخرى.

العامل الرابع سياسي الطابع، حيث انّ المعارضة ترفض انتخاب رئيس من صفوف الممانعة بذريعة استمرار الشغور، وتتمسّك بمرشحها الرئاسي وتتحدّى الفريق الآخر الإقلاع عن التعطيل والاحتكام للعملية الديموقراطية والتقيُّد بالدستور مهما كانت النتيجة الانتخابية.

والفارق هذه المرة يكمن في انّ «القوات اللبنانية» في موقع المرشِّح لا المرشَّح، ولن تتخلّى عن مرشحها كما تمّ التخلّي عنها في الانتخابات الرئاسية السابقة تحت عنوان الخشية من ان يؤدي الفراغ إلى تطيير النظام، فلا مساومة ولا تنازل، فإما الاحتكام إلى الآلية الانتخابية الديموقراطية، وإما التوافق وفقاً لشروط ميزان القوى البرلماني والوطني والسياسي والمسيحي والشعبي والخارجي.

العامل الخامس دولي الطابع، حيث انّ ميزان القوى الخارجي الأميركي والأوروبي والسعودي والمصري لن يقبل بانتخاب رئيس لإيران في لبنان، خصوصاً انّ طهران تشهد انتفاضة داخلية واتفاقها النووي معلّق، وقد ارتفع منسوب الغضب من مشاركتها في الحرب الأوكرانية ضدّ المجتمع الدولي.

والفارق هذه المرة يكمن في ميزان القوى الدولي أولاً الذي لن يسمح بمزيد من النفوذ الإيراني، وفي التشنُّج الدولي ثانياً من طهران خلافاً للمرة السابقة التي انتُخب فيها العماد ميشال عون قبل انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وفي الدينامية الخارجية ثالثاً باتجاه السعي لانتخاب رئيس للجمهورية لا الانكفاء عن الواقع اللبناني.

العامل السادس حزب اللهي الطابع، حيث انّ «حزب الله» لم يتبنَّ بشكل صريح ومعلن النائب السابق سليمان فرنجية على غرار تمسّكه بترشيح العماد ميشال عون، ما يعني تركه باب التنازل والاتفاق مفتوحاً، لإدراكه بصعوبة إيصال رئيس من صفوفه بفعل موازين القوى الداخلية والخارجية المتبدّلة ضدّ مشروعه.

وعليه، فإنّ كل هذه العوامل مجتمعة، المالية والحكومية والنيابية والسياسية والدولية والممانعتية، تجعل شغور العام 2014 يختلف عن شغور العام 2022، وتكشف الفريق الممانع وترفع منسوب الضغوط الداخلية والخارجية في وجهه، ما يضطره إلى التراجع عن تعطيله لمصلحة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، يعيد الانتظام للسلطات الدستورية ويعيد الاعتبار لدور الدولة في سياساتها الداخلية والخارجية.