نسارع أولاً الى القول إن الاتفاق النووي وعلى الرغم من انه بات نوعا ما متخلفاً عن التطورات التقنية والقفزات التي حققتها ايران في برنامجها النووي من خلال الخروقات التي مارستها طوال عامين متتاليين، تحت ستار الخلافات بشأن أسلوب العودة الى الاتفاق، لا يزال على جدول اعمال المجتمع الدولي أقله الغربي الذي ليس امامه سوى أن يتمسك بمبدأ العودة الى طاولة التفاوض والاتفاق بأسرع ما يمكن مع طهران على العودة الى اتفاق 2015، مع الامل بوقف التجاوزات الكبيرة التي قامت بها ايران لناحية تطوير قدراتها في تخصيب كميات اكبر من اليورانيوم بأكثرمن 60 بالمئة و ربما اكثر. حيث ان طهران باتت قادرة على بلوغ نسبة تفوق 90 بالمئة ، وهي نسبة الاستخدام العسكري. طبعاً من المعلوم ان نسبة 60 بالمئة تخصيب ليست مخصصة لاي استخدام ذي طابع مدني سلمي.

واذا كانت طهران قد تنصلت من مسوؤلياتها في قبول العرض الأوروبي الذي قدمه مسؤول السياسة الخارجية والامن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في شهر تموز (يوليو) الماضي، بذريعة أولى تلخصت في إصرار السلطات الإيرانية على رفع الاميركيين "الحرس الثوري" ومؤسساته عن لوائح الإرهاب وبالتالي رفع العقوبات عنه، ثم في مرحلة لاحقة عبر رفض طهران تقديم أجوبة شافية عن أسئلة وجهتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية تتعلق بالعثور على بقايا يورانيوم مخصب في ثلاثة مواقع لم تصرح عنها طهران. وهذا ما زاد من الشبهات بأن ايران تدير برنامجاً نووياً عسكرياً. وفي مطلق الأحوال توقف كل شيء بحلول شهر أيلول (سبتمبر) التالي، ثم دخلت ايران في ازمة كبرة وعميقة جراء انفجار موجة احتجاجات عارمة ضد النظام بعد قيام "شرطة الأخلاق" بقتل الفتاة مهسا اميني، ثم مواجهة الاحتجاجات النسائية والشبابية في مختلف انحاء ايران بالعنف الدموي المفرط حيث قتل اكثر من 500 شخص برصاص قوات "الباسيج " التابعة لـ"الحرس الثوري".

المهم أنه في الآونة الأخيرة، عاد الحديث في الأوساط الدولية عن إمكانية إدارة محركات الاتصالات بشأن الاتفاق النووي مع ايران. لكن العقوبات الاوروبية والأميركية التي استهدفت مسوؤلين ومؤسسات رسمية في ايران رداً على القمع الوحشي للاحتجاجات وعمليات الاعدام التي قامت بها السلطات، زادت من العقبات في وجه محاولة احياء الاتفاق النووي. صحيح أن ثمة مسوؤلين في الإدارة الأميركية الحالية مثل مسؤول الملف الإيراني في البيت اابيض روبرت مالي، حاولوا ان يستغلوا أحداث ايران الأخيرة، فكالوا سيلا من الانتقادات بحق النظام الإيراني، لكنهم لم "يقطعوا شعرة معاوية" كما يقال، وظلوا بالرغم من كل ما حصل داخل ايران، و من موجة التعاطف الدولي مع نساء ايران الثائرات وشبانها وشعوبها المنتفضة في بلوشستان والاحواز وكردستان -ايران ينتظرون فرصة للعودة الى العمل مع اركان النظام.

وقد كان من اللافت ان يصرح وزير الخارجية الإيرانية حسين امير عبد اللهيان قبل يومين للتلفزيون الرسمي الإيراني قائلا إن "الاميركيين سبقوا الأوروبيين في ارسال الرسائل من اجل العودة الى الاتفاق النووي" في الوقت الذي رد فيه على قرار البرلمان الأوروبي بمطالبة الاتحاد الأوروبي (الذي تتمثل فيه الحكومات) بتصنيف "الحرس الثوري" كمنظمة إرهابية بموقف تصعيدي اعتبر فيه ان مجلس الشوري الإيراني أي البرلمان يدرس وضع افراد وعناصر الجيوش الأوروبية على لوائح الإرهاب الإيرانية.

ومن المهم بمكان التوقف عند تأكيد عبد اللهيان أن جوزيب بوريل قال له ان القرار الصادر عن البرلمان الأوروبي كان "عاطفياً"، مما يعني ان بوريل خفض من أهمية القرار وتجاهله في العلاقة مع النظام في ايران. وبما أن الإيرانيين يحسنون النفخ بالبارد والساخن في آن معا فقد أشار عبد اللهيان في المقابلة عينها الى ان "لا خيار امام الأطراف الأخرى لاصلاح العلاقة مع ايران إلا بالعودة الى الاتفاق النووي"!

مرة جديدة ترمي طهران امام الأوروبيين وإدارة الرئيس جو بايدن ورقة الاتفاق النووي للمساومة، في حين أننا نعتقد ان الاتفاق مات إيرانياً فيما لم يدرك الغرب بعد أن طهران ستواصل استخدامه كأداة ابتزاز، توازياً مع سباقها المحموم مع الوقت لانتاج قنبلتها الذرية الأولى في غضون اشهر قليلة.