التحالف بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر» انتهى مبدئياً من دون الحاجة لانتظار نهاية صاخبة على غرار علاقات أخرى تنتهي بطلاق وقطيعة، ولكن هذا لا يعني انّ ضخ الاوكسيجين في عروق التفاهم مستقبلاً غير وارد، إلّا انّ واقع العلاقة بينهما اليوم سيئ، فهل يفترض مدّ يد المعارضة للتيار؟

المشكلة الأساسية بعد العام 2005 هي مع «حزب الله» وقبل هذا التاريخ كانت مع النظام السوري، وقوة الحزب ليست في المئة ألف مقاتل كما لم تكن قوة النظام السوري بدباباته، إنما بالتحالفات السياسية التي تُمكِّنه من السيطرة على مفاصل الدولة، وعلى رغم مساوئ أدوار القوى التي تريِّح مسبِّب الأزمة اللبنانية، إلا ان التركيز يجب ان يبقى دوماً على مسبّبي هذه الأزمة.

ومعلوم ان القوى السياسية تنقسم إلى نوعين: النوع المبدئي الذي يكون التحالف او الخصومة معه من طبيعة استراتيجية، والنوع المصلحي الذي يُفترض ان تكون العلاقة معه «على القطعة» لا القطيعة، خصوصاً في ظل وضع انقسامي وقوى محدودة وغياب البدائل.

فليس اكتشافاً ان أولوية «التيار الوطني الحر» رئاسة الجمهورية خصوصاً والسلطة عموماً، اي ان أولويته سلطوية لا مبدئية، وليس سراً انّ التيار لا يعير أهمية للوسيلة التي تؤمِّن له السلطة، فلا حرج لديه إذا كانت الوسيلة النظام السوري او «حزب الله»، وشعاره هو السلطة فوق كل اعتبار، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه انطلاقاً من هذا التشخيص الدقيق لحالة التيار: هل يجب مقاطعته ومواجهته لأنه مَصلحي ومصلحته السلطوية تُسيء إلى القضية والخط السيادي على غرار ما حصل في حربَي التحرير والإلغاء وفي تحالفه مع «حزب الله» الذي أدى إلى ترييحه والتشويش على الدينامية التصاعدية لانتفاضة الاستقلال، أم يجب التعامل معه على القطعة، أي التقاطع معه حسب الملف في ظل الحاجة أحيانا إلى هذا التقاطع ربطا بكتلته النيابية، ولكن الأهم سعياً إلى تطويق الحزب وإضعافه الذي يبقى السبب الرئيس للأزمة اللبنانية؟

وفي هذا السياق يمكن الحديث عن وجهتي نظر: الوجهة الأولى راديكالية، وتعتبر انّ مساوئ التيار لا تقل عن مساوئ الحزب، لا بل أسوأ بسبب مشروعه المتبدِّل تبعاً لمصالحه واختراقه للبيئة المسيحية وانقلابه على الخط المسيحي اللبناني التاريخي، ما يستدعي تحصين الساحة المسيحية من هذا الاختراق الذي يشكل مدخلاً لتحسين ظروف المواجهة الوطنية، ومن هذا المنطلق لا يجب التهاون إطلاقاً مع التيار، إنما إبقاء المواجهة معه مفتوحة، لأنها معركة مبدئية لا تحتمل التهاون ولا التساهل.

الوجهة الثانية براغماتية، وترى انه في كل مرة يحقِّق التقاطع مع التيار مصلحة عامة من قبيل قانون انتخاب او قانون لامركزية او تسجيل نقطة على الحزب او إفقاده حليفاً لا يجب التردُّد في إرساء هذا التقاطع تحقيقاً لهذه الأهداف وغيرها، لأن الأولوية دائماً هي للهدف الوطني وليس للوسيلة التي تختلف هنا عن الوسيلة السلطوية باعتبار انّ المواجهة مبدئية، وكل ما يحصِّن هذه المواجهة لا يجب التردُّد في اعتماده.

وهناك من يقول بعدم جواز فتح الأبواب للتيار طالما انه لم يقطع مع الحزب ويريد ان يوظِّف سياسة الأبواب المفتوحة تحسيناً لظروف مفاوضاته معه، وانه لو كان جدياً بمقاربته الرئاسية لَما لوّح رئيس التيار بترشيحه الرئاسي، ولو كان جديا أيضا لَما سعى وراء الصورة في بكركي او معراب، بل كان فاوضَ البطريرك ورئيس الاشتراكي على أسماء توافق عليها المعارضة في حال يجد حرجاً في دعم مرشحها الحالي، ولكن كل حركته تدلّ على الاستعراض وعدم الجدية لمعرفته ان الـ»لا» لمرشّح الحزب بتقطَع، ولكن الـ»نعم» لمرشح لا يريده الحزب ومن دون التنسيق معه والتقاطع مع المعارضة ما بتقطَع.

فلا شك انّ الخلاف كبير بين الفريقين، والمسؤولية تقع على الحزب الذي يفترض ان يكون في الملف الرئاسي خلف التيار لا العكس، وهذا الخلاف يصبّ في مصلحة المعارضة التي عليها ان تُحسن الاستفادة منه، فلَو دعمَ التيار مثلا مرشّح «حزب الله» الرئاسي، لكانت حظوظ الأخير واسعة وكبيرة، ولم يدعمه لاعتبارات مختلفة عن المعارضة طبعاً وخلفياتها سلطوية لا مبدئية، ولكن النتيجة في النهاية هي نفسها، ولَو شاركَ التيار في الجلسة التشريعية لكانت عقدت هذه الجلسة على رغم بيان الـ46 نائباً المعترض على عقدِها.

فما يحصل بين المعارضة والتيار يندرج في سياق التقاطع غير المباشر الذي أدى وظيفته لغاية اليوم في مجالين لمصلحة المعارضة: قطع الطريق على مرشح الحزب، ومنع انعقاد جلسة تشريعية كَون المجلس هيئة انتخابية لا اشتراعية، وليس المطلوب تغيير طبيعة التيار للتفكير ما إذا كان يجب الالتقاء معه أم لا، لأن طبيعة التيار السلطوية لن تتبدّل، فيما المطلوب تسجيل الأهداف في مرمى الحزب على غرار ما حصل في الهدفين المذكورين، وصولاً إلى تفكيك تحالفاته، وتحالفه الأكبر هو مع التيار، وبقدر ما يبقى هذا التحالف مأزوماً، بقدر ما يبقى الحزب عاجزاً عن تحقيق الأهداف.

وقد يقول قائل ما يحصل اليوم هو المطلوب لا أكثر ولا أقل، أي التقاطع غير المباشر الذي تستفيد منه المعارضة بمزيد من التضييق على خيارات الحزب، ويستفيد منه التيار بإفهام الحزب بأنه عاجز من دونه، ولكن خطورة الاستمرار في مساحة التقاطع السلبي تكمن في احتمال إحياء التحالف بين التيار والحزب، وهذا الاحتمال مطروح دائماً من مبدأ العرض والطلب والمقايضة، إنما لا مؤشرات إلى ان العلاقة بين الطرفين سترمّم قريباً لثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول، لأنّ «حزب الله» ما زال داعماً لترشيح رئيس تيار «المردة» ولا مؤشرات إلى انه سيتراجع عن هذا الترشيح ويعيد مفتاح القرار في الرئاسة الأولى للتيار.

السبب الثاني، لأنّ الحزب اعتبر انّ موقف رئيس التيار غير المتفهِّم لدوافعه الاستراتيجية بتبنّي ترشيح رئيس «المردة» أساءَ إلى الحزب أكثر من أخصامه.

السبب الثالث، لأن أزمة الثقة بين الفريقين أصبحت كبيرة ولن يكون من السهل ترميمها.

وما تقدّم يعني ان لا خوف من عودة المياه إلى مجاريها قريباً بين الفريقين، وانّ التقاطع غير المباشر بين المعارضة والتيار يمكن ان يبقى سيِّد الموقف، لأن اي تقاطع مُباشر سيقود إلى مفاوضات من دون سقوف، خصوصاً ان التيار ليس «كاريتاس» ويريد ان «يُقرِّش» خطواته، ولكن هذا لا يمنع، برأي وجهة نظر معارضة لا علاقة لها بـ»القوات اللبنانية»، من التواصل مع التيار سعياً لزيادة الشرخ بينه وبين الحزب باعتباره هدفاً استراتيجياً، والتواصل لا يعني إطلاقاً تبنّي خيارات التيار، إنما ان يدعم الأخير هذه المرة خيارات المعارضة مع حفظ ماء وجهه.

والواقعية السياسية تتطلّب من المعارضة التفكير بهدوء بـ7 نقاط أساسية:

النقطة الأولى، انّ التقاطع غير المباشر مع «التيار الوطني الحر» قطع الطريق على «حزب الله» رئاسياً وتشريعياً لغاية اليوم.

النقطة الثانية، انّ اي تفاهم بين المعارضة والتيار على مرشح يتمتّع بصفتي الإصلاح والسيادة ولا تأثير على قراراته من اي فريق سياسي يضع الحزب في موقع صعب للغاية.

النقطة الثالثة، انّ التواصل لا يعني الاتفاق، إنما السعي إلى اتفاق، فإذا نجح وتم التفاهم على مرشّح على أساس مواصفات المعارضة، وهي مواصفات إنقاذية، يكون أمراً جيداً، وفي حال فشل التواصل تبقى الأمور ضمن المربّع نفسه، فلا خسارة من عدم الربح.

النقطة الرابعة، انّ المواجهة مع الحزب سياسية لا عسكرية وتتطلّب تفكيك تحالفاته وتطويقه سياسياً ورفع تأثيره عن مؤسسات الدولة بدءاً من رئاسة الجمهورية مروراً برئاسة الحكومة والحكومة، وصولاً إلى المواقع الأساسية في الدولة، وهناك فرصة اليوم يجب استثمارها بدقة وانتباه ورويّة.

النقطة الخامسة، انّ ميزان القوى البرلماني لا يُفسح في المجال بتسديد ضربات سياسية موجِعة في مرمى الحزب سوى من خلال فصله عن التيار، وبما ان البيئة مؤاتية فمن الخطأ عدم المحاولة.

النقطة السادسة، انّ التيار لن يتمكن من استعادة شعبيته التي وصلت إلى أوجها في انتخابات العام 2005 وبدأت تتراجع مع توقيعه التفاهم مع الحزب في شباط 2006 ووصلت إلى أدنى مستوياتها مع نهاية عهد الرئيس ميشال عون، فهناك شيء قد انكسر شعبياً ولا يمكن ترميمه سوى بعد أجيال، وبالتالي لا خوف على هذا المستوى.

النقطة السابعة، انّ الوقت الكارثي يستدعي تفعيل التواصل لإقرار اللامركزية بأبعادها الإدارية والمالية المفتوحة والتي تحوّلت إلى حياة او موت، وهذه اللامركزية لا يمكن الدفع باتجاه إقرارها من دون التيار.

وعليه، وبالنسبة الى كل هذه النقاط وغيرها، فإن المعارضة مدعوّة للتعامل مع وضعٍ منهار ومقفل، والتمييز بين السيئ والأسوأ، واضطرارها إلى التعامل مع السيئ لمحاولة محاصرة الأسوأ وكَف يده عن سلطة يستحيل الإنقاذ في ظل استمرار قبضته عليها.

فهل يجب الاستفادة من الخلاف بين «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» بهدف مزيد من إضعاف الحزب سياسياً وإفقاده أوراق قوته داخل كل الطوائف والبيئة المسيحية تحديداً، أم من الأجدى إبقاء التقاطع بصورته غير المباشرة وعدم منح مَن أساء في انقلابه على بدايات انتفاضة الاستقلال من خلال تفاهم مار مخايل صَك براءة ولو انّ الهدف الأساس يبقى في عزل الفريق المسؤول عن عدم قيام دولة فعلية ودَفعه إلى تقديم تنازلات تصبّ في خانة الدولة؟