يوم الخميس 23 فبراير (شباط) الماضي، ادّعى القضاء اللبناني على رياض سلامة، حاكم المصرف المركزي منذ العام 1993، وشقيقه رجا، ومساعدته ماريان الحويك، بجرائم «اختلاس الأموال العامة والتزوير واستعمال المزور والإثراء غير المشروع وتبييض الأموال ومخالفة القانون الضريبي»!
ويوم الأحد 26 منه، كشفت الصحيفة السويسرية «زونتاغستسايتونغ» عن معطيات خطيرة بحوزة القضاء السويسري، ملخصها أن سلامة متهم، وشقيقه ومساعدته، بعمليات اختلاس وتبييض أموال تقدر بين 300 و500 مليون دولار! ويشتبه بتورط 12 مصرفاً بعمليات التبييض. أبرز هذه المصارف «أتش إس بي سي» العالمي، و«كريدي سويس»، ومصرفين لبنانيين في جنيف: «عودة» و«البحر المتوسط»! وأوردت أنه تم إيداع 250 مليون دولار في حساب رجا سلامة لدى «أتش إس بي سي»، ووزعت بقية الأموال على حسابات في 11 مصرفاً آخر في سويسرا، يشتبه بتورطها في عمليات التبييض. وتبين أن كل التحويلات تمت عبر شركة «فوري»، المسجلة في الجزر العذراء، واستخدمت مبالغ منها لشراء عقارات في أوروبا!
وفيما جمّد المدعي العام السويسري ملايين الدولارات في حسابات سلامة، ويتابع إجراءاته الجنائية ضده وضد معاونيه، فإن التحقيقات بهذه الجرائم المالية المرتكبة على أراضٍ أوروبية تتم متابعتها من القضاء في باريس وبرلين وبروكسل ولندن... لكن سلامة حتى تاريخه متربع على سدة حاكمية «المركزي اللبناني»، رغم أن السياسات المالية التي يقف خلفها تسببت بانهيار مريع في سعر الصرف، وأدت إلى السطو على ودائع للمواطنين تفوق 100 مليار دولار، وخسائر عامة بعشرات المليارات! سلامة الذي جُدِّدَ له عام 2017 باقتراح من ميشال عون، وموافقة حكومية إجماعية، مستمر، لأنه الذراع المالية لمنظومة النيترات المتسلطة.
للتذكير، رفض رئيس البرلمان نبيه بري بعد أشهر على بدءِ الانهيار المطالبات بإقالة الحاكم، لأن «سعر الصرف سيصل إلى 20 ألفاً»، فتجاوز سعر الصرف 85 ألفاً، وسلامة في موقعه! أما رئيس حكومة تصريف الأعمال ميقاتي فهو صاحب القول المأثور: «ما حدن بيغير الضابط أثناء المعركة»!
أدى حكم قضائي مبرم على أحد المصارف بتسديد جزئي لوديعة مودع، لأن تعلن المصارف إضراباً عاماً، وتتخذ من المواطنين رهائن لابتزاز القضاء، لأنها لا تريد رد الودائع لأصحابها، وتريد وقف الملاحقات وقمع المودعين المسروقين! وفاقم نهج الابتزاز الادعاء على مصرفين إثنين بتبييض الأموال بعد رفضهما الامتثال لقانون رفع السرية المصرفية، في دعاوى يُراد منها كشف مصير 9 مليارات دولار حوّلها «المركزي» إلى المصارف، وتفتح الدعوى الباب لمعرفة «المحظوظين» الذين هربوا مليارات الدولارات إلى الخارج في الأسابيع الأولى للثورة، يوم أقفلت المصارف أبوابها تعسفاً، وامتنعت رسمياً عن الدفع!
كان اللافت إقدام الرئيس ميقاتي يوم 22 فبراير الماضي، وهو بالمناسبة أحد أبرز «البنكرجية»، على إطلاق أخطر تغولٍ على السلطة القضائية، ومعاملتها كواحدة من الإدارات العامة التابعة للسلطة الإجرائية! أمر وزارة الداخلية بأن تعمم على الجهات الأمنية، عدم تنفيذ القرارات القضائية التي تستهدف الكارتل المصرفي الناهب، الذي سطا على ودائع تعود لأكثر من مليون أسرة! فقوبل القرار بصفعة من مجلس القضاء الأعلى، فيما أجمعت الهيئات القانونية على مطالبة ميقاتي بالاستقالة، عندما تبين تكراراً أن هاجس السلطة الإجرائية حماية الكارتل المصرفي من الملاحقة القضائية. لا تفسير لخطوة اغتصاب السلطة القضائية، إلا الإصرار من جانب التحالف المافياوي بأجنحته السياسية والمصرفية والميليشياوية، على أنه واحد موحد في حماية اللصوص، مهما كان الثمن! وقد تزامن كل ذلك مع أكثر من محاولة فاشلة لعقد جلسة للبرلمان، محورها قوننة الجرائم المالية، بتشريع العفو عنها، أسوة بقانون العفو عن جرائم الحرب!
كذلك، شهد الخميس 23 فبراير الماضي حدثاً لافتاً، تمثل بحكم مبرمٍ صدر عن محكمة العدل العليا البريطانية ضد شركة «سفارو»، ناقلة شحنة الموت إلى المرفأ، لصالح ضحايا جريمة العصر. يفتح الحكم البريطاني باب معرفة هوية أصحاب شحنة النيترات، والكثير من ملابساتها، ما يمنح التحقيق العدلي دفعاً كبيراً... لكن التحقيق متوقف ومحاصر بدعاوى «الرد» و«كف اليد» منذ سبتمبر (أيلول) 2021، بعدما ادعى المحقق العدلي البيطار على أركانٍ في الطبقة السياسية وكبار الأمنيين، ولاحقاً قضاة كبار، بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، فتقدم «حزب الله»، صاحب السلطة، لـ«قبع» المحقق لأنه لا «ينسجم» مع «العدالة الثورية» للحزب! وتجندت أكثرية الطبقة السياسية لحجب الحقيقة ومصادرة العدالة وصون «قانون الإفلات من العقاب»، وانخرطت السلطتان التشريعية والإجرائية في البحث عن «فتاوى» للتمديد لكبار الأمنيين المدعى عليهم!
مع بداية الشهر الخامس على الشغور الرئاسي، يسود عجز «معارضة» النظام و«موالاته» عن ابتداع صيغة ما لانتخاب رئيس جديد، لا يحمل لكل فريق ضمانة كاملة لمصالحه. وبدأ البلد المطحون بالانكسارات يعيش موت السياسة بمعناها النزيه في إدارة مصالح الناس والمصالح الوطنية. امتنع الرئيس بري عن الدعوة لأي جلسة انتخابية منذ 19 يناير (كانون الثاني)، رغم أن البرلمان هيئة انتخابية لا عمل لها قبل انتخاب الرئيس، لأن له رؤية أخرى، مفادها أنه لا دعوات للانتخاب ما لم يلمس منحى توافقياً (...)، و«حزب الله» الذي فقد أكثريته يخير الآخرين بين تأبيد الشغور، أو سليمان فرنجية رئيساً «لا يطعن المقاومة»! وما من مبادرة أخرى يُعول عليها!
فرنجية، المعروف بالتباهي أنه ممثل «الخط»، إلى كونه أصيلاً في السياسة التي أرسلت لبنان إلى الجحيم، وبارزاً في الفريق المسؤول عن برمجة الانهيار ونهب مقدرات الدولة وودائع الناس، معروفة «مآثره» وزيراً للداخلية عام 2005، أمر بطمر حفرة التفجير الذي قتل الرئيس رفيق الحريري، ولم يلتفت إلى أبعاد التلاعب الخطير بمسرح الجريمة! ونعى قاسم سليماني بوصفه «رجلاً عظيماً ناصر الحق وانتصر للحقيقة»! وبعد الادعاء بالجناية على مسؤولين في جريمة تفجير بيروت، قال: «الوزير مش شغلته يعرف إذا النيترات بينفجر»! ويصل إلى الذروة بقوله إن أجيال المستقبل «ستحسد الذين عاشوا في زمن حسن نصر الله»!
خطير الإصرار على طرح ترئيس فرنجية، بعد زلزال الانهيار الذي ضرب لبنان وأهله. والأخطر الرسالة التي يوجّهها «حزب الله» من خلاله؛ إنه عنوان نظام المحاصصة لمنع قيام مشروع دولة الدستور والقانون والحق والعدالة التي ينشدها اللبنانيون! إنه عنوان الحكم بالإعدام على حقوق الناس والمصالح الوطنية، من خلال الذهاب إلى الحد الأقصى في الزلزال اللبناني، في إبقاء رئاسة الجمهورية تحت قبضة «حزب الله» غطية سياسات الاقتلاع والالتحاق بمشروع ملالي طهران، وابتداع الفتاوى التي تخدم مصالح أثرياء التهريب والتبييض زمن احتلال النظام السوري واتساع النفوذ الإيراني! إن مخططهم بعد السطو على المقدرات العامة والخاصة وتهريب المسروق استهداف أصول الدولة، وأولها الاستيلاء على احتياطي الذهب!
التعليقات