لم يعد خافياً أن الملف اللبناني لا يحظى بالأولوية لدى الدول المعنية بالمنطقة. إذ تتقدم ملفات أخرى تركز عليها الدول، إن كان في الاتفاق الإيراني - السعودي أو من خلال الانفتاح العربي على دمشق، أو خصوصاً لدى الولايات المتحدة الأميركية. حتى الدول الخمس التي اجتمع ممثلوها في باريس لم تتمكن من الاتفاق على نقاط مشتركة لتوفير تغطية إقليمية ودولية للحل في لبنان أو أقله إنجاز الاستحقاقات الدستورية. أما باريس التي كانت تسعى إلى إنضاج تسوية للاستحقاق الرئاسي عن طريق المقايضة، فقد تراجعت حركتها أيضاً بعد التباينات في المواقف مع السعودية حول اقتراحها انتخاب مرشح الممانعة سليمان فرنجية رئيساً في مقابل رئيس للحكومة تسميه المعارضة. وبانخفاض منسوب الاهتمام الدولي بلبنان على وقع تطورات إطلاق الصواريخ من الجنوب اللبناني، واستمرار التعطيل الداخلي للاستحقاق الرئاسي يعيش لبنان حالة انتظار في ظل فراغ قاتل تهوي معه المؤسسات واحدة تلو الأخرى، ويستمر التدهور في غياب أي مقومات للتسوية.
بات واضحاً في غياب توافق دولي وإقليمي حول الحل أو التسوية، أن كل الاستحقاقات في لبنان معطلة، بما فيها الانتخابات البلدية التي تقرر تأجيلها أيضاً. وصلت المشكلة اللبنانية إلى مرحلة من التدهور لم يعد الحل معه ممكناً من دون تدخل خارجي، في ظل تفكك الدولة وعجز أطراف الداخل عن صوغ توافقات، خصوصاً لعدم وجود بدائل وازنة، وهي تغييرية بالدرجة الأولى. بات الجميع مقتنعين بأن لا وجود لمقومات تسوية داخلية في ظل الصراع القائم، وهي تحتاج إلى رافعة خارجية لم تتوفر شروطها بعد، على الرغم من الحراك الدولي في اجتماع باريس، والذي كشف عن عمق المأزق وعدم القدرة على إيجاد تقاطعات حول انتخاب رئيس توافقي، مع إصرار "حزب الله" على التمسك بمرشحه. وعلى الرغم من استمرار البحث بين فرنسا والسعودية حول الشأن الرئاسي، والذي تمثل أخيراً بزيارة لمستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الشرق الأدنى باتريك دوريل للمملكة العربية السعودية، إلا أنه لم يظهر تغيير في ما يتعلق بالتباينات القائمة.
الشغور الرئاسي وحالة الفراغ التي يعيشها لبنان لم يدفعا القوى السياسية والطائفية لوضع رهاناتاتها جانباً لإنجاز الاستحقاقات التي تُعد معبراً للانتقال إلى مرحلة لبنانية جديدة. لكن قوى عديدة لا تزال تراهن على تغييرات خارجية لفرض أمر واقع رئاسي قبل أن تدهم لبنان مواعيد استحقاقات أخرى، خصوصاً انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تموز (يوليو) المقبل. فتعيين حاكم جديد يجب أن يسبقه انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، وإذا ما استمر التعطيل يعني ذلك أن الفراغ سيشمل حاكمية المركزي، مع ما يحمله من مخاطر إضافية على الوضع النقدي المتدهور.
إنجاز الاستحقاقات اللبنانية لا يكتمل من دون توافق دولي، خصوصاً بين الدول الخمس التي اجتمعت في باريس. لكن المعضلة الأساسية تبقى قي الموقف الإيراني الذي يعتبر لبنان ساحة نفوذ عبر قوة "حزب الله" ودوره الإقليمي، وبالتالي لا يتنازل بخلاف ما يجري في ملفات أخرى. المشكلة أن الاختلاف في المقاربات كان بارزاً بين دول اجتماع باريس، وإن كان يجري البحث عن نقاط مشتركة، خصوصاً بين السعودية وفرنسا. وتظهر المعطيات أن الملف اللبناني هو الأصعب، وهو ليس مشابهاً لليمن الذي يتقدم خطوات مهمة في التسوية انطلاقاً من الاتفاق السعودي - الإيراني.
لبنان ليس من الأولويات في اتفاق بكين، ولم تظهر في أفق العلاقات السعودية - الإيرانية أن هناك بحثاً جاداً حول التسوية في لبنان، ولا ملامح لوجود مشروع معين للوصول إلى حل شامل أو حتى تسوية مرحلية تمكن لبنان من إنجاز الاستحقاقات. ويبدو أن ترحيل البحث في الملف اللبناني هو لتجنب الاصطدام الذي يمكن أن يؤثر على ملفات الحل في دول أخرى. أما في الداخل، فلا تظهر أي مؤشرات حول جهوزية الأطراف للتوصل إلى تسوية، حيث يستمر التعطيل إلى ما لا نهاية. ولعل عدم تحديد اجتماع ثانٍ لدول باريس يظهر أن لبنان لم يوضع بعد على طاولة البحث في المفاوضات حول الملفات الإقليمية، ما يعني أن الحل يحتاج إلى وقت طويل لإنضاح تسوية له، إذ ثمة أطراف لبنانية لها مرجعيات إقليمية، خصوصاً "حزب الله" الذي ينظر إلى الحل اللبناني من وجهة إقليمية مرتبطة بمرجعيته الإيرانية. ولعل ما يواجه إنضاج الحل خارجياً، هو غياب التقاطعات بين القوى الإقليمية وأيضاً التواصل في ما بينها، فلا حلحلة على المستوى الإقليمي للملف اللبناني، ولا يبدو أن هناك تحريكاً للاستحقاقات، خصوصاً الرئاسة الأولى، وهو ما يُترجم لبنانياً بخلافات حادة وشروط ومواقف يختصرها "حزب الله" بأنه يريد رئيساً "لا يطعن المقاومة". كما أن عدم وجود تقاطعات أميركية - إيرانية حول مختلف الملفات، بعد انهيار المفاوضات حول الاتفاق النووي، يزيد من عمق المأزق اللبناني الراهن.
اللافت أنه بعد الزيارة الأخيرة لمرشح "الممانعة" سليمان فرنجية لباريس، لم يعد هناك من حديث جدي حول الرئاسة، فيما الاتصالات الدولية تراجعت أيضاً، علماً أن دول اجتماع باريس لم تعلن تأييدها لأي مرشح ولا بحثت أصلاً في الأسماء، وهو ما يدحض كل الكلام عن تبني اسم قائد الجيش اللبناني جوزف عون كمرشح تسوية يرفضه أساساً "حزب الله"، وطالما ان فرنسا كانت مصرة على مقايضتها مع سليمان فرنجية.
لم تظهر أيضاً مؤشرات تفيد بأن الفرنسيين في صدد تغيير موقفهم نحو مقاربة جديدة والخروج من معادلة المقايضة. حتى أن زيارة دوريل للسعودية بحثت في الشأن الرئاسي اللبناني من مدخل المقايضة. هذا يعني أن لبنان ينتظر ما ستؤول إليه الاتصالات الإقليمية والدولية الجديدة لحسم عدد من ملفات المنطقة، وما يمكن أن يظهر من مفاعيل الاتفاق السعودي ـ الإيراني. وفي الانتظار ستتم مراقبة التطورات في الملف اليمني، وما سينتج أيضاً من الاجتماع العربي الذي سيبحث في عودة دمشق إلى الجامعة العربية ومدى الانفتاح العربي على سوريا وفق شروط محددة، بعضها لبناني يرتبط بالحدود والتهريب، وأيضاً في ما يتعلق بالدور الإيراني وامتداداً "حزب الله".
وفي ما يبدو أنه محاولات لإعادة صوغ تسوية شاملة للوضع اللبناني، تنطلق بعد التقدم في عدد من ملفات المنطقة، إلا أن المخاوف بدأت تظهر من تسوية دولية وإقليمية أو صفقة على قاعدة المحاصصة، أي توزيع المناصب على القوى الأساسية، تكون فيها حصة الأسد لقوى الممانعة، أي "رئاسة الجمهورية"، فيما يتم إرضاء القوى الأخرى المعترضة بمنصبي قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، وهو ما يعني إنقاذ الطبقة السياسية وترسيخ معادلة الأمر الواقع التي أودت بلبنان إلى الهاوية. وإذا تبلورت وجهة خارجية للحل اللبناني، فإنها تحتاج إلى أشهر لتطبيقها، لكن حتى الآن توحي التطورات بأن الأزمة قد تطول، خصوصاً أن كل ما يحدث، إضافة إلى المواقف المعلنة، يؤكد أن الحلّ له مسار إقليمي ودولي، إذ لا يمكن للبنانيين والقوى التي تتحكم بأمورهم أن يتفقوا على الخروج من المأزق بسبب الصراع القائم على المحاصصة وموازين القوى، وهم الذين تسببوا بالأزمة الأشد خطورة في تاريخ لبنان.
التعليقات