أخرج ابن قتيبة في كتابه «عيون الأخبار» أن أبا جعفر المنصور قال في مجلسه يوماً لجلسائه: صدق الأعرابي حيث يقول: «أَجِعْ كلبَك يَتْبَعْكَ»، فقام أبو العباس الطّوسي فقال: «يا أمير المؤمنين، أخشى أن يُلَوِّحَ لهُ غيرك برغيفٍ فَيَتْبَعَهُ ويَدَعَك»!

إن ما كان يقصده المنصور هو أن التابع لا بد أن يكون في حاجة دائمة حتى يُعطي قياده لمن يتبعه، فالمكتفي يصعب التأثير عليه أو أَمْرُه لانتفاء حاجته للآمر، لكن العالِم الحكيم نسف هذا المبدأ الأعوج وهو يُنبهه إلى أن المحتاج يسهل ضمه في الغالب لكل من يلوح له بما يسد حاجته وتكون نِقْمَته أكبر على صاحبه الأول الذي بَخِل عليه!

تحدثنا عن أهمية القبيلة بكل أشكالها وكيف أنها قد تكون الملاذ للبشرية من طوفان السقوط الأخلاقي الذي تعيشه، وحيث إن القبيلة الحالية تحتاج إلى أمرين لتتشكل كما يقول سيث غودين وهما: المصلحة المشتركة وطريقة التواصل، إلا أنه لا بد من إعادة التذكير بأن سقوط الجغرافيا بسبب دخول وسائل الاتصال الحديثة قد جعل الأوطان بحدودها الجغرافية مُستباحة، وانحرفت بوصلة الولاء بهدوء ودون انتباه حتى من الأفراد أنفسهم، فإن ما يفعله إيلون ماسك على سبيل المثال ليس عفوياً أو من باب المحبة في تسهيل حياة الناس، لكنه كسب ولاءات وخلق طائفة متعصبة Cult لا أتباع فقط، وانظروا فورة الردود عليه لكل ما يغرد به، حتى لو وضع وجهاً مبتسماً فقط لبلغت الردود آلافاً مؤلفة، هذا التأثير المتزايد أين سينتهي به المطاف، أتمنى ألا يخرج عليّ بارد ليقول كفاكم سوء ظن وانسياق مع نظرية المؤامرة، هؤلاء لا يبدأون بأمر إلا ونهايته محفوظة في أذهانهم لكنهم لا يحرقون المراحل الزمنية أبداً مثلنا، لذلك يأتي حصادهم كما يريدون!

تقول الفيلسوفة الألمانية هانا آرنت: «البشر كجماعة -لا الفرد- هم من يعيشون على الأرض»، لذا كانت ترفض وصفها بالفيلسوفة لأن الفلسفة بنظرها تجعل الفرد مركز كل شيء، وقد تجلّت أكثر بعد هجرتها لأمريكا وصدمتها بالنزعة لتقديس الفرد ورغباته، وخرجت بمصطلح worldlessness، والذي يعني فقدان الفرد للصلة بالعالم، ورأت أن ما يجري ليس كما يبدو ظاهرياً، فالمقصود للمتبصّر تفكيك الطبقات والشعوب والأعراق وأصحاب الدين الواحد، وصولاً لتفكيك الفرد نفسه وعزله بملهيات كثيرة وإفقاده مع الوقت الثقة بغيره وبنفسه وتذويب كل مشاعره الإنسانية والتجاهل التام لمبدأ التضامن!

ما حذّرت منه هانا آرنت هو ما يلعب في ساحته ماسك وغيره، أذكر أن لدى نعوم تشومسكي ورقة قدّم بها بعض الوسائل التي يتم افتعالها للسيطرة على المجتمعات، من ضمنها خلق مشكلة كبيرة ثم الدخول كمنقذ للناس من هذه المشكلة، فماسك وأصوات أخرى خرجت مناهضة للاجتياح «المِثلي» فكسبت نقاطاً كثيرة في رصيدها لدى ملايين المتابعين عبر القارات، لكن الغريب أن مجرد تغريدة تكتبها للتنديد بالمثليين في تويتر الذي يملكه ماسك تجعل حسابك يُغلق فوراً، فهل هو جزء من هذه التمثيلية الكبيرة لتقديم نفسه كبطل «منقذ للبشرية»، أم هو «خِتيار» طيّب لا يملك سلطة على شركته!

إن الدول لا بد أن تكون كل منها قبيلة واحدة، لكن تحديات الإعلام الجديد كبيرة وغير قابلة للكسر بوسائلنا الحالية، والسبب ببساطة لأننا - إلا من رحم الله - قد ألغينا من المعادلة أهم وأقوى عنصر يحفظ تماسك الداخل ويجعله عصيّاً على الدخيل من الخارج، ذاك العنصر هو الدين، والدين كان خير مهذّب للقبلية والعصبية السليمة دون أن يسمح لها بأن تخرج عن المسار أو تُشكّل معولاً يهدم تضامن المجتمع الواحد، بل كانت توجّه لخدمة الدين والحفاظ على الجماعة الأم، ففي معركة خالد بن الوليد الحاسمة ضد مسيلمة الكذاب، أمر أن يُدفَع لكل قوم راية وقال لهم: «أيها الناس، تمايزوا، حتى نعرف من أين نُؤتى»!

إن القبيلة عنصر مهم بكل تشكّلاتها، لكن الملاذ الأخير الذي يهمنا نحن تحديداً هو الإسلام، فخروجه من أي معادلة وجودية يعني الخسارة الحتمية، وحضوره يعني خلق سور لا مرئي يقي المجتمع ضرر كل قادم من الخارج فكرة كان أو سلوكاً، فسبحانه قد وعد بالنصر والتثبيت لمن ينصره بقوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّت أَقْدَامَكُمْ»، لكن هذا الدين يحتاج من يدعمه ويقف خلفه لكي يحمي الكيان ويجعله ممتنعاً على الكسر أو التفكيك، فقد أُثِرَ أن أميراً قال لابنه: «يا بُني، إن الـمُلك والدين أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالدين أسّ والملك حارس، ومن لم يكن له أس فمهدوم ومن لم يكن له حارس فضائع»!