يظن البعض أن مصطلح "القوة الناعمة" ليس له عمق تاريخي بعيد، باعتبار أن أول من قاله هو الأمريكي الفذ "جوزيف صموئيل ناي" المقرب من الرئيس الأمريكي السابق "كلينتون"، والمولود في نيوجرسي عام 1937م، بإشارته إلى مفهوم "القوة الناعمة" في العصر الحديث عندما نشر كتابه المعنون "الطبيعة المُتغيرة للسياسة الأمريكية". والمراد من هذا المصطلح "كسب مجتمع أو مجتمعات أخرى والتأثير عليهم بما تملكه من قدرات"، حصرها على ما أظن في ثلاثة طرق، هي: الدبلوماسية، والحوار الحضاري، والتاريخ.؛ ولعلي أضيف هنا مفهوم "السلوكيات" الاجتماعية وغيرها. وسأبين لاحقًا هذا الأمر. وهكذا فالمقصود بهذا المصطلح "التأثير في أمة/ مجتمع بطرق هادئة وغير مباشرة".

لهذا عليّ الإشارة ولو بشكل مختصر إلى أن مفهوم القوة الناعمة ممارس منذ قِدَم الإنسان على هذه الأرض، فقد تَوَصَلَ في العصور الحجرية إلى مفهوم المشاركة، وهو من أهم عوامل الجذب والتأثير على الآخر. فشارك أخيه الإنسان في الأرض والمأكل والمشرب وكان التوافق بينهم واضحًا وجليًا. ولم يستمر هذا التوافق والتجاذب والحياة المشتركة طويلًا فقد أدّت عواملَ عدّةً إلى فوارق واختلافات جذرية، منها عاملان جعلاه يبتدع فكرةَ الاختلاف العرقيّ، أولهما تنامي فكرة السيطرة والسلطة المتمثّلة في قيادة الجموع والأفراد، فتطوّر الأمر إلى ظهور الزعيم، والقائد الملهم، وثانيهما حبّ الاستحواذ والتملّك، والاستيلاء على الممتلكات (الأراضي، المباني والبشر... إلخ). ومن هنا ظهر التمييز من خلال الانتماء إلى زعيم معيّن والتبعية له أو الانتماء إلى الأرض (المكان). وبهذه الصورة تميّز بمرور الزمن عنهما مفهوم السلطة المركزية التي تطوّرت إلى أسلوب الدولة مهما كان نظامها السياسي، وانتماؤها إلى الموقع الجغرافي، مثل: البابلي والأكادي... إلخ. وقد أدّى هذان المفهومان اللذان ارتبطا بهجرة أولاد آدم (عليه السلام) إلى بقاع الأرض المختلفة إلى خلق هذه الفروقات. ولهذا فإن المعايير التي قام عليها هذا الاختلاف هو الرغبة البشرية في السيطرة والاستحواذ، ولاحقًا ظهرت معايير عدّة في التفريق بين أبناء البشر، منها: اللغة، والبشرة، والديانة. أما عن السبب في هذا التباين في الألسنة والمعتقدات الاجتماعية والدينية فأعيده في الأساس إلى "البيئة"، التي أدّت دورًا واضحًا في هذه الفوارق والتباينات. وهكذا ظهرت الهوية، وهي: "مجمل السمات التي تميِّز شيئًا عن غيره، أو شخصًا عن آخر أو مجموعة عن غيرها"، وهي هوية فردية وجماعية (أنا، والأسرة الصغيرة، والعائلة، والعشيرة، والقبيلة، والشعب، والأمة)، مصداقًا لقوله عز وجل في محكم كتابه: (... يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) (الحجرات: 13).

وهذا التباين العرقي أولًا والديني ثانيًا والاجتماعي ثالثًا -وهي وقود التباين والاختلافات بين البشر عبر التاريخ- أظهر الحاجة والعودة إلى المشاركة وذلك بعد آلاف من السنين من التباين والصراعات؛ وبدأ كل مجتمع يُظهر قوته وإمكانياته الجاذبة كما فعلت سومر وأكاد ومصر الفرعونية ولاحقًا اليونان وروما والحضارة العربية الإسلامية، وحاليًا الحضارة الغربية الليبرالية... إلخ

ومما اعتبره البعض أسلوبًا من أساليب القوة الناعمة في العصور القديمة أمران سادا في الألف الثالث قبل الميلاد الأول أخطته العائلات المالكة -حينها- واستمر إلى وقتنا الحاضر، وهو المُصاهرة بينها: الإبلاوية، والأوجاريتية، والآشورية والبابلية، والمصرية القديمة، والميتانية، والكاشية، والحثية، ومملكة ماري... إلخ فقد كانت المُصاهرات الملكية تعبيرًا عن العلاقات الودية بين بلدين؛ ولعل أقدمها ما كشفه أرشيف إبلا الذي كان معروفًا في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، فقد استخدم ملوك إبلا المصاهرة "زواج الأميرات" بهدف كسب التحالفات، ومن هذه الأحداث زواج ابنة حاكم إبلا "إركب دامو" من حاكم "إيمار"، وزواج الأميرة الإبلاوية من ملك كيش. ولاحقًا زواج الأمير الآشوري "يسماخ أدد ابن ملك آشور شمس أدد" الأول" (1815- 1782 ق. م) من ابنة ملك قطنا "إشخي أدد"، المدعوة: "دمخورازي"، أو عندما تزوج ملك مصر "أمون- م- إيت" أخت زوجته الأميرة المصرية لأمير آدوم "هدد". وقد أثمر هذا الزواج بعد تقلد الأمير مقاليد حكم بلاده عن علاقات تجارية وسياسية رفيعة بين البلدين؛ وكذلك تزويج "الحارثة الرابع" ملك الأنباط ابنته لملك يهوذا هيرود أنتيباس. ولعلي أشير إلى منهج عُرف في الفترات القديمة، قد يعده البعض من القوة الناعمة، وهو تنشئة أبناء أمراء ممالك أخرى في القصور الملكية للدولة الراغبة في التأثير ووجدناه جليًا في فترة الملك المصري "تحتمس الثالث"، فقد جذب معه أبناء أمراء مدن سوريا التي أخضعها لحكمه وخصص لهم مميزات جيدة من سكن فخم وتعليم متميز؛ وكان لها مردودًا طيبًا في تعميق العلاقات وإن لم تكن دائمة، فسلبيات هذا المنهج أكثر من إيجابياته. الثاني المعاهدات والاتفاقيات وإن كان ظاهرها فرض هيمنة المنتصر، إلا أن عددًا منها أوضح رغبة المنتصر في حفظ ماء وجه المنهزم، وأقدم هذه الاتفاقيات التي ابتدعها للعالم الشعب العراقي القديم هي الاتفاقية التي وقعت بين الملك "كلكامش" (حاكم الوركاء) و"أكا" ملك كيش الأولى في الألف الرابع قبل الميلاد. ومن أشهر هذه المعاهدات معاهدة "السلام الحثية والمصرية"، التي عُقدت في عام 1274 قبل الميلاد؛ على كل حال علينا التأكيد أن غالبية المعاهدات والاتفاقيات تحمل تأكيدًا على هيمنة المنتصر، مثل معاهدة مدينتي "أوما"، و"لكش" في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد (3100ق. م).

ولعل أبرز مجتمع -في تصوري- استخدم "القوة الناعمة" في استراتيجياته في شبه الجزيرة العربية، هما: المجتمعان اللحياني شمال المملكة ونجران جنوبها. فقد كان من عوامل قوتهما (رغم ضعفهما عسكريًا) الانفتاح بسلوكيات حضارية راقية أولًا، وثانيًا بثقتهما بفكرهما الذي تبنياه؛ فزاد انجذاب القبائل العربية وغيرها إلى الاستقرار والحياة بين أفراد هذين المجتمعين. فالشعب اللحياني (الداداني) كان بسلوكياته ومفاهيمه الاجتماعية عامل جذب للقبائل والشعوب القديمة من داخل شبه الجزيرة وخارجها، فنجد الثمودي والمعيني والسبئي وكذلك الأدومي والأكادي والآرامي واليوناني والروماني... إلخ، وكذلك نجران المنطقة الوحيدة التي عُثر فيها على نقوش سريانية القلم. أما في الشرق الأدنى فلعلنا نجد ذلك في ممالك سوريا القديمة -أوجاريت، ماري، إبلا، وفينيقيا- أما المجتمع المصري القديم فله ميزة خاصة عكستها بيئته وشخصيته الجاذبتين مع افتقاد الفكر المصري القديم الانفتاح على الآخر إلا أن جاذبية شخصية المصري كانت عاملًا فاعلًا في قوته الناعمة التي ما زالت -وإن كانت محدودة- إلى اليوم.

ولا شك عندي أن من الأمور التي ساعدت على التأثير والتأثر ودفعت إلى تخفيف حدة الفصل البشري كانت الأديان السماوية، ومنها الدين الإسلامي الذي أظهر هذه القوة في عدد كبير من الآيات، ومنها الآية (60 من سورة التوبة)، والتي أشار الله فيها إلى أن الصدقات ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ..)). وفُسرت هذه الآية ان المقصود بـ "المُؤلفةِ قُلوبُهُم" غير المسلمين، بهدف الجذب والتأثير. وهناك عشرات الأحاديث والقصص التي تدلل على أن مفهوم الجذب والإغراء ممارسان بشكل دقيق في الإسلام من خلال تعامل نبي الرحمة "محمد صلى الله عليه وسلم". والإحسان كما يقول -الشيخ الشعراوي- "يؤلف قلب الإنسان السَّوي، وكذلك يؤلف جوارح الإنسان غير السوي، فلا يعتدى على من أحسن إليه باللسان أو باليد". وهذا أسلوب ومنهج ممارس اليوم لجذب الآخرون إلى دينكَ أو معتقدكَ أو مذهبكَ ... إلخ سواء دينيًا أو فكريًا أو غيرهما.

واليوم انحرف مسار القوة الناعمة فاستبدل التأثير الديني بالتأثير الحضاري والثقافي، فلم يعد من عوامل انتشار لغة ما ارتباطها بالدين، فمع أن العربية لغة الدين الإسلامي إلا أن استخدامها بينهم تضاءل حتى أن عددًا من اللهجات العربية ابتعدت كثيرًا عن استخدام قواعد اللغة أو مفرداتها الدقيقة، بل مع الأسف مخارج الحروف وأصواتها. والأمر ذاته كان في اللغتين العبرية، والآرامية، فالأولى لغة موسى وأصحابه، والثانية لغة عيسى ابن مريم وتابعيه عليهما أفضل الصلاة والسلام ومع هذا فهما لغتان لا يستخدمهما حاليًا إلا أقلية. واليوم نلمس نجاح الغرب -شاء البعض أم أبى- في مفهوم "القوة الناعمة" فأثر على مجتمعات العالم المعاصر، وهو لم يبتدع كثيرًا فقد قام بنشر ثقافته ومفاهيمه وقيمه عبر أمرين: تقدمه الحضاري المتميز، وسلوكياته المتمثلة بكل وضوح في العدل. لذلك فالغرب أكثر مناطق العالم -اليوم- استقطابًا للهجرة بنوعيها القسري والاختياري. وهاتان الميزتان كانتا أيضًا الأساس في تأثير المجتمعات القديمة في الشرق الأدنى على غيرهم. ولعل أبرز الحضارات تأثيرًا واضحًا وجليًا هما في تصوري حضارتان: الرومانية والعربية الإسلامية فتأثيرهما الثقافي والحضاري نجده بوضوح في كل بقعة من العالم القديم.

وإذا كان العالم الغربي لديه العديد من المميزات الحضارية والثقافية التي جعلت منه مؤثرًا فَاعِلًا فماذا يملك العرب للتأثير على غيرهم؟ فلا ثقافة قوية ولا هوية راسخة ولا تقدم حضاري وتقني حقيقي؛ وفي تصوري ليس لنا إلا الاستفادة مما تركه الآباء والأجداد من إرث حضاري متميز ومن ثم تقديمه بمنهج يعكس قيمة مجتمعاتنا العربية وأثرها على الجدار الحضاري في فترات تاريخية موغلة. فيشهد التاريخ لمجتمعاتنا العربية بالكثير من الإنجازات الحضارية، فالمجتمعان الرافدي والمصري كان لهما السبق في التوصل إلى الكتابة في نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، كما تشهد لهما منجزاتهما المعمارية المتميزة، مثل: أهرام مصر ومعابدها وتماثيلها ومسلاتها، وفي العراق إضافة إلى الزقورة نجد حدائق بابل إحدى عجائب الدنيا السبع. ويعود فضل اختراع الأبجدية إلى أعرق من استخدم البحار الفينيقيون. ولا ننسى القوانين التي سبق بها أهل العراق العالم أو اليمن حيث امتاز بعمارته اللافتة على قمم الجبال الشاهقة بشكل مذهل. وهكذا تمتاز منطقتنا بعدد وفير من الإنجازات البشرية؛ وإذا أخذنا على سبيل المثال المملكة العربية السعودية فسنجد تاريخًا ناصعًا ومكانة مهيبة لا تحتاج إلا إلى إبراز حقيقي لهذا الإرث وفهمًا صحيحًا، فهي أغنى المناطق العربية في عدد من المظاهر الحضارية:

- تعدد لغاتها وانتشارها، مثل: الثمودية والآرامية، والنبطية، والتدمرية والسبئية والمعينية والصفائية والسريانية؛ إضافة إلى لغات أخرى وجدت على أرضها، مثل: الهيروغليفية، والرافدية (الآشورية والبابلية) والكتابات الكلاسيكية (اليونانية واللاتينية والرومانية).

- إنها مكانًا لثاني أقدم مصنع لنحت الخيول في قارة آسيا في موقع المقر بين محافظتي تثليث ووادي الدواسر.

- تضم أقدم مناطق الاستيطان في قارة آسيا (الشويحطية في الجوف)، التي تعود إلى أكثر من مليون وخمس مئة ألف عام.

- إن أقدم رسوم دللّت على أقدم استئناس لصديق الإنسان الكلب في العالم وُثِقَتْ في منطقة الجوف.

- إن أقدم الرسوم الثلاثية الأبعاد في العالم والعائدة إلى الألفين التاسع/ الثامن قبل الميلاد سُجلت في منطقة الجوف.

- إن تطور الخط النبطي على يد المجتمع التيمائي شمال المملكة العربية السعودية. وتطور الخط العربي الحالي على يد مجتمع العلا "الحِجْر" من النبطي في بداية القرن الثاني الميلادي.

- إن أكبر القنوات المائية وأميزها في جزيرة العرب سُجلت في منطقة الخرج وسط المملكة.

- والأهم اختيار الله عز وجل مكة المكرمة مكانًا لبيته العتيق، ولغتهم لغة لأجل كتبه جل وعلا وأفضلها "القرآن الكريم"، واختار من أفرادها آخر أنبيائه ورسله وأجلهم عنده "محمد بن عبد الله القرشي".

ويؤدي -اليوم- قطاع الآثار دورًا واضحًا في عدة أمور، منها السياسي (الداخلي والخارجي)، والاقتصادي والاجتماعي ... إلخ ولسنا في هذه العجالة بحاجة إلى الاستطراد في دور الآثار في هذه الأمور؛ ولكن عليّ الإشارة إلى ما يدلل في وقتنا الحاضر على ما يؤديه العمق التاريخي من احترام متبادل، ونجد هذا جليًا في تعامل الغرب مع إيران، فمع الخلاف بينهما خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أن الغرب يتعامل باحترام وتقدير مع إيران ليس لوضعها الحالي، بل لعمقها التاريخي ودور شعبها الأخميني في إنشاء إمبراطورية هيمنت على الشرق وسعت إلى الهيمنة على مفتاح أوروبا "اليونان"؛ فكثيرًا ما يبدي الساسة الغربيون وقادة فكرهم الليونة تجاهها ليس احترامًا لنظامها الحالي، بل نظرًا إلى عمقها التاريخي اللافت؛ وهذا أيضًا ديدنهم مع المجتمعات الأخرى خصوصًا في الشرق، مثل: العراقي، والمصري، والهندي، ...إلخ في علاقاتهم السلمية أو الخلافية معها. والمثال الثاني في هكذا تعامل ما وجدته "اليونان" من تعاطف ودعم لامحدود لأزماتها الاقتصادية بسبب سوء إدارة حكوماتها اليسارية المتعاقبة، ومع هذا نالت اليونان موقفًا مختلفًا من قادة العالم اليوم "الغرب" إذ حصلت على دعم مالي وتسهيلات فاقت آلاف المليارات لا لشيء إلا أنها -أي اليونان- مهدًا للديمقراطية والفلسفة للحضارة الغربية الحالية.

أما داخليًا فاستخدمه الساسة خصوصًا الفسدة منهم في جعل الآثار "أفيونًا للشعوب"، باستخدامه مكبلًا لبناء المستقبل والعيش في الماضي وانجازاته ونسيان الواقع المرير والمستقبل الغامض. فنجحت بعض الحكومات في العالم الثالث في تنويم مجتمعاتها مغناطيسيًا، فجعلتها تعيش على إنجازات الماضي وتتقبل وضعها المعاصر المخزي، بل وعدم الفهم الصحيح للمستقبل، بمعنى أخر تعيش على أوهام تكمن خطورتها فيما تسببه من عدم استخدام طاقاتها لمنافسة المجتمعات الأخرى في إعمار الأرض. أما اجتماعيًا فهو عامل رئيس في اتحاد المجتمع خلف أي قضية يتبناها المجتمع أو قادته، ولكنه مع الأسف دافع غير مثمر في المجتمعات غير المتقدمة مصداقًا لقول الشاعر العربي:

"ليس الفتى من يقول كان أبي ولكن الفتى من قال ها أنا ذا".

فأصبح مع الأسف الشديد الاهتمام بالآثار والتاريخ القديم إما للتفاخر الكاذب أو منومًا مغنطيسيًا لهذه المجتمعات تفاديًا من قادته إلى استيقاظه ومطالبته اللحاق بالركب العالمي. في حين لا يخفى على الجميع ما يضيفه الآثار وهو عمود أساس في السياحة اليوم من زيادة في الدخل القومي واستقرار اجتماعي داخلي.

لكن ما هو الرابط بين السياحة والآثار، وقبل الإجابة على هذا التساؤل عليّ الإشارة إلى أن السياحة لُغةً "الضرب في الأرض؛ أي الانتقال والمشي من موقع إلى آخر"، والسياح -حسب تعريف منظمة السياحة العالمية- "هم الأشخاص الذين يوجدون في مكانٍ ما لمُدّةِ (24) ساعة؛ بهدف الحصول على وسائل الترفيه ..."، التي تشمل أمور عدة، منها زيارة الأماكن التاريخية. وفي زمننا هذا أصبح التجوال (السياحة) من الأساسيات، فقد كانت في أزمنة قديمة محصورة في فئات معينة، كما وجدناه عند المجتمعين المصري والعراقي على سبيل المثال. وزاد التجوال في الفترة الرومانية فشمل فئات عدة في المجتمع، وأصبح الترفيه من دوافعها ثم زادت بشكل ملفت في الحضارة الإسلامية، لكنها اليوم لعدة عوامل أهمها: سهولة التنقل وسرعته، والتقنية الحديثة أصبح السياح (الزوار) بمئات الملايين سنويًا، كما يوضح الجدول أدناه لأعلى ست دول جاذية للزوار:

التسلسل

الدولة

عدد الزوار (السياح)

الدخل بالدولار

1-

فرنسا

82،700،00

(63) مليار

2-

الولايات المتحدة

76,407،000

(214) مليار

3-

اسبانيا

75,315،000

(79) مليار

4-

الصين

59,270.000

(40) مليار

5-

إيطاليا

52,372,000

أكثر من (44) مليار

6-

المملكة المتحدة

35,814,000

أكثر من (51) مليار

جدول يوضح عدد الزوار لأعلى ست دول في العالم، ودخلها من السياحة

التسلسل

الدولة

عدد الزوار (السياح)

الدخل بالدولار

7-

المملكة العربية السعودية

18،044،000

أكثر من (11) مليار

8-

دولة الإمارات العربية

14،870،000

أكثر من (19) مليار

9-

مملكة المغرب

10،332،000

أكثر من (6) مليار

10

الجمهورية السورية

8،546،000

أكثر من (6) مليار

11-

الجمهورية التونسية

5،724،000

أكثر من مليار

12-

جمهورية مصر العربية

5،258،000

أكثر من (2) مليار

أكثر البلدان العربية زوارًا مع الدخل القومي من هذه الزيارات

ويتبين من الجدولين أعلاه الأهمية الاقتصادية لهذا القطاع الذي توليه دول عدة اهتمامًا كبيرًا لأهميته في الاستقرار الداخلي لأنه طريق إلى خلق وظائف لملايين من الشباب. والواقع أن دولنا العربية تحتاج إلى الكثير للاستفادة الصحيحة من هذا القطاع الهام، فهي تمتلك من عوامل الجذب الأثري ما الله به عليم، فالمنطقة العربية الأغنى -حسب الدراسات- آثاريًا بين دول العالم (من الخليج العربي إلى المحيط). ولعلي أتوقف على مثالين هامين، أولهما "مصر"، وثانيهما "السعودية" فالأولى تعتبر عالميًا الأغنى في الجانب الأثري، والثانية بها مواقع تتلهف إليها قلوب المليارات من المسلمين، كيف لا وهي موطن أشرف خلق الله محمد رسول الله وصحابته الأكارم، ومع هذه الإمكانيات إلا أنهما لم ينجحا في مساعيهما الحثيثة للاستفادة من ثرواتهما الطبيعية والبيئية والتاريخية.

ولنعد مرة أخرى إلى عنوان هذه المشاركة وهي القوة الناعمة والآثار، فنقول بكل شفافية : إن الآثار من عوامل القوة الناعمة إذا أحسن استغلالها واحترمت قيمتها، لكن قوة الآثار والتراث الناعمة مرتبطة بعوامل أخرى لا يمكن تحقيقها دون توافرها، مثل: توافر البنية التحتية المعاصرة، والمواصلات الحديثة وفاعليتها، إضافة إلى شعور الزائر بالراحة والاطمئنان من خلال التعامل المقرون بالاحترام الحقيقي، فالزائر ليس برميل بترول متنقل؛ وأهم هذه العوامل سلوكيات المجتمع ومفهومه للتلاقي الثقافي والفكري. لذلك فلن نستفيد من هذه القوة الناعمة في الآثار دون العوامل المساعدة، ودليلنا من وطننا العربي "مصر والعراق" اللتان تعدان الأغزر آثاريًا ومع هذا فعدد زوارهما في العام لا يعكس هذا الثراء لاختفاء أو ضعف العوامل السابقة؛ لذلك تبقى قوة الآثار الناعمة في هذين البلدين العربيين روحية ولكنها ليست واقعيه. ومن أهم أسباب هذا العزوف المعاملة التي يعامل بها الزائر في جميع بلداننا العربية من استغلال العوام للزائر ماديًا، وعدم شعور الزائر بالأمان في بلداننا العربية إما لعدم إصدار قوانين رادعة تنظم العلاقة بين الزائر والجهات التي يتعامل معها أو لعدم تطبيقها في الأساس.

وهكذا يتبين أن العلاقة بين الآثار والسياحة علاقة وثيقة لا تحتاج إلا إلى فهم صحيح وفكر وثاب وتفعيل للمنطق فإن ما يجذب السائح -في ظني- ليس كما ترسخ في ذهن البعض وهو "الآثار والمواقع التاريخية، وإضعاف ثقافتنا وهويتنا باستخدام لغات أجنبية في الحياة اليومية"، لا وألف لا فالسياحة تتعدد مشاربها وتتنوع ومن أهمها لا شك الآثار، لكن الأهم عند الزائر السلوكيات التي تضاءلت كثيرًا في بلداننا العربية.

وأخيرًا أشير في هذه العجالة إلى أن القوة الناعمة من الآثار والتراث تزداد قوةً وتأثيرًا، في ارتباطها بالسلوكيات، ولكن هذا العمق الحضاري والتاريخي يتضاءل كثيرًا في حال تضاءلت السلوكيات. وهذه السلوكيات تتعزز في الأنظمة والقوانين، والانفتاح على الثقافات الأخرى، والابتعاد عن التعالي (الشوفونية) التي نخرت وتنخر في الجسد العربي حتى أنهكته.

وكم أرجو أن نستفيد من تجارب الدول التي نجحت رغم فقرها آثاريًا وتراثيًا في جذب الآخرين، مثل أمريكا التي يصل إنفاق السياحة في اقتصادها الضخم إلى أكثر من "200" مليار دولار، الذي يعود في تصوري إلى أمرين هامين أولهما سلوكياته المرتبطة بنجاحه في استغلال إمكانياته؛ وثانيهما نجاحه في الاستفادة من مساحته الجغرافية وتنوعه الثقافي بالكم الكبير من الفعاليات المتعددة التي تدفع الزائر إلى التنقل بين ولاياته المتباعدة بهدف حضور فعالية ثقافية أو فنية أو غيرها. وهذا ما جعل عائد السياحة في أمريكا يفوق أربع مرات إنفاق السياح في فرنسا، مع أن عددهم في فرنسا أكثر من زوار أمريكا.

فبلادنا العربية من المحيط إلى الخليج فسيفساء في تنوع تضاريسها وعاداتها وتقاليدها وعومل الجذب بها، فلماذا لا تتفق دولنا على نوع من الفيزة تسمح لزائر المغرب زيارة عُمان أو زائر إمارة قطر زيارة موريتانيا، وبهذا نشجع الزوار على الاستفادة من فعاليات مجتمعاتنا العربية وآثارها وثقافاتها.

ولا شك عندي أن رؤية المملكة في 2030 تداركت أمورًا عدة في مجتمعنا العربي السعودي فقد تأخرنا لأسباب واهية في الاستفادة من إمكانياتنا المحلية الهائلة آثاريًا وتاريخيًا وتضاريسيًا وبيئيًا واجتماعيًا؛ ولعل من أهمها في تصوري تغطية احتياج هذا المجتمع العريق إلى طرق حديثة ومواصلات فاعلة مثل القطارات التي يجب أن تربط هذه القارة "المملكة العربية السعودية"، والعمل على تنوع الفعاليات في مناطقها وبين قبائلها. أما أهم عامل وهو السلوكيات والانفتاح على الثقافات الأخرى واحترامها مصداقًا لقوله تعالى (لكم دينكم وليّ دين"، أقول أظنها في ظل قيادتنا الشابة التي يقودها الأمير محمد بن سلمان في طريقها إلى تغيير المجتمع العربي السعودي.