لا شيء يقلق السلطات التشريعية والتنفيذية المالية حول العالم، سوى الارتفاع الكبير والمتواصل لمعدلات الاحتيال المصرفي بأشكال مختلفة. هذا إلى جانب القلق الناجم عن الحالة التي تركها التضخم على الساحة، وأدت إلى سلسلة لا تتوقف من التشديد النقدي، التي أثرت بدورها سلبا في قيمة الودائع هنا وهناك. والاحتيال المالي ليس جديدا على الساحة الدولية، لكنه مر بمراحل مختلفة على مدى عقود، في ظل "معارك" مستمرة مع أولئك الذين يقومون بأعمال الاحتيال، ومع جهات باتت أقرب للمؤسسات من حيث هيكلتها وتكوينها وإدارتها. مؤسسات غير شرعية بالطبع، لكنها قادرة على إلحاق الأذى والضرر في القطاع المصرفي كله. فالخسائر الناجمة عن عمليات الاحتيال كبيرة ومتطورة ومتنوعة، كما أنها ليست حكرا على منطقة أو دولة، فالاحتيال المالي عالمي من الدرجة الأولى.
كل هذا يتم، على الرغم مما تقوم به المؤسسات المعنية من حماية وتأمين الحسابات وعمليات التحويل والشراء. واتبعت هذه المؤسسات سلسلة متطورة لا تتوقف عن التجديد من أجل ضمان مزيد من الأمان في تحريك الأموال والحسابات عموما. وخصصت أيضا ميزانيات كبيرة لتمويل حتى الدراسات والمبادرات لإيجاد مزيد من الأدوات الآمنة المساعدة لحماية العمليات المصرفية كلها. بل لجأت في العقدين الماضيين إلى المحتالين التائبين أنفسهم، لتقديم العون في سياق ملاحقة من يقومون بأعمال الاحتيال المتطورة. أي إنها ببساطة استخدمت عقول وتصرفات محتالين سابقين لملاحقة محتالين لا يزالون يمارسون جرائمهم على الساحة. والحقيقة، أن السلطات الأمنية نفسها استخدمت هذا الأسلوب منذ أعوام في عمليات ملاحقة المجرمين الماليين، إن جاز وصفهم.
ليس سهلا تحديد أرقام دقيقة تماما للخسائر الناجمة عن الاحتيال المالي، فنسبة من عمليات الاحتيال لا يتم التبليغ عنها، وإن حدث ذلك لا تجري متابعتها كما ينبغي من جانب المتضررين أنفسهم. لكن في النهاية هناك أرقام حقيقة لهذه الخسائر التي تمثل "اقتصادا" بحد ذاتها، من فرط حجمها الكبير، واتساع رقعها المالية والجغرافية أيضا. ووفق الجهات العالمية المعنية، فإن الاحتيال المالي يكبد العالم خسائر تقدر بنحو 5 في المائة من التجارة العالمية كلها.
وفق مركز "جوبتير" للدراسات في بريطانيا، ستبلغ الخسائر العالمية الناجمة عن الاحتيال المالي من خلال التجارة عبر الإنترنت "أونلاين" خلال الأعوام الخمسة المقبلة 343 مليار دولار. أي أكثر من 350 في المائة من صافي عوائد شركة أبل الأمريكية في 2021. ويعتقد المركز أن هذه الخسائر ستصل إلى مستويات كبيرة للغاية ما بين 2023 و2027، حيث يزيد الاعتماد على هذا النوع من التعاملات التجارية. وهذه الخسائر لا تشمل بالطبع عمليات الاحتيال التي تستهدف الحسابات المصرفية، أو البطاقات الائتمانية، حتى تلك التي تشمل الوصول إلى البيانات الشخصية للعملاء.
بحسب "ائتلاف مقاومة الاحتيال المالي" الذي يتخذ من سنغافورة مقرا له، فقد بلغت الخسائر في 2021 حدود 55 مليار دولار، لكن هذه الأرقام تشمل 48 دولة فقط شملتها دراسة "الائتلاف". أي إن الخسائر على المستوى العالمي ستكون كبيرة جدا، فيما لو شملتها الدراسة المشار إليها. المثير أن عمليات الاحتيال هذه ارتفعت أكثر من 15 في المائة عنها في 2020. وفي بريطانيا "مثلا" تراوح الخسائر بين مليارين وثلاثة مليارات دولار. وأيضا لا بد من الإشارة هنا، إلى أن هذه الخسائر مسجلة، وهناك أخرى غير مسجلة لأسباب عديدة، في مقدمتها أن المبالغ قيد الاحتيال تكون صغيرة، وأن بعض الذين يتعرضون للاحتيال فعلا، لا يقدمون إشعارا بذلك، ولا حتى يتابعون ما يجري بشأن حساباتهم.
اللافت أن أعمال الاحتيال المالي ازدهرت جدا في 2020، والسبب الرئيس وراء ذلك، أن عدد الأشخاص حول العالم الذين يستخدمون الإنترنت والخدمات المختلفة عبرها ارتفع بفعل فترات الحظر الصحية في مواجهة جائحة كورونا. وهذه النسبة واصلت الارتفاع ما بعد الجائحة، ما سيؤدي حتما إلى ارتفاع وتيرة عمليات الاحتيال في الأعوام المقبلة. فوفق مارك ستيوارت مدير الرقابة المالية في المملكة المتحدة، فإن عدد إنذارات الاحتيال التي أصدرتها هيئة السلوك المالي في 2020 كان ضعف المستوى الذي شوهد في عام 2019. وسجلت المراكز المعنية في بريطانيا أكثر من 150 ضحية احتيال في البلاد خلال عشرة أشهر فقط من 2020.
يبدو واضحا أن المحتالين الأفراد ومعهم الجهات التي باتت متخصصة في الاحتيال المالي، سيمضون قدما في أعمالهم هذه. فهم يعتقدون بأنهم يتقدمون دائما خطوة عن السلطات المختصة بمكافحتهم، وأن الأدوات المعقدة التي "يبتكرونها" تمنحهم مساحة ليست صغيرة لارتكاب جرائمهم. وبصرف النظر عن الاستثمار المالي الهائل الذي تضعه الحكومات، وكذلك المؤسسات والشركات المعنية في مكافحة الاحتيال المالي، يبقى ما يمكن وصفه بـ"التثقيف" الوقائي اللازم للأفراد الذين يمكن أن يتعرضوا لهذه العمليات الشائنة. وهذا "التثقيف" ليس إلا توعية مستمرة تساعد الجهات المختصة على مهامها لوقف هذه الجرائم التي ترتفع مع ارتفاع معدلات الوصول إلى الإنترنت والاعتماد عليها في الحياة اليومية.
التعليقات