هل يجري في كواليس حرب أوكرانيا، تحرك جديد لم تتكشف ملامحه للآن، وإن كان ما يجذب الأنظار إليه، ما أعلنه المستشار الألماني أولاف شولتس في 21 سبتمبرالماضي، عن رغبته في بدء محادثات مع الرئيس الروسي بوتين، وهو ما اعتبر تحولاً عن موقفه يسبق ذلك بستة أشهر كان قد أعلنه في مارس، أثناء اجتماعه مع الرئيس الأمريكي بايدن. يومها قال شولتس إن الحلفاء الغربيين سيدعمون أوكرانيا مهما طال الوقت، ثم أشاد بايدن بالدعم العسكري القوي من ألمانيا لأوكرانيا.
الإعلان الأخير لشولتس جاء في حوار أجراه مع المؤسسة الألمانية التليفزيونية، وقال إنني أنوي التحدث مرة أخرى مع بوتين، وإن ما يدعو إليه هو سلام عادل لإنهاء النزاع في حينه.
كانت آخر مكالمة هاتفية بينهما قد جرت في ديسمبر 2022، واتفقا وقتها على الإبقاء على الاتصال. ورداً على تصريح شولتس أعلن ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين، أن بوتين مستعد لأي اتصال هاتفي جديد، ومن الضروري أن نتحدث معاً، وأن بوتين لا يزال منفتحاً على الحوار، لكن مع مراعاة الهدف الأساسي وهو حماية مصالح مواطنينا، وإن كان بوتين قد تحفظ بقوله إن تزويد ألمانيا لأوكرانيا بالسلاح هو تصرف مدمر. ودعاها إلى إعادة النظر في موقفها هذا. وبالمقارنة بين الاتصال السابق والرغبة في اتصال جديد بين الرئيسين، في ديسمبر 2022، قال شولتس إن ألمانيا ستواصل دعم أوكرانيا، وستعمل في الوقت نفسه على منع أي صدام مباشر بين روسيا والناتو، وإنه ينبغي على بوتين أن يتفهم أن الحرب لا يمكن إنهاؤها عن طريق إيجاد نوع من السلام البارد، لكن الأمر يتعلق بسلام عادل، وبشرط انسحاب روسيا من أوكرانيا.
الموقف الألماني المتغير دفع دولاً غربية وأيضاً أوكرانيا، إلى اتهام ألمانيا بتباطؤ حركتها في تأييد أوكرانيا. ثم بدأت تتوالى ردود الأفعال داخل أوروبا، فمثلاً أعلن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن معيار مصداقية ألمانيا لا يحدده فقط الالتزام الدقيق بمسار السياسة الخارجية الذي رسمته الولايات المتحدة، لكنه يكمن أيضاً في حركته بنشاط لدفع أوروبا نحو مسار موثوق به. ثم أضاف المجلس الأوروبي في تقرير لاحق، عنوانه «أزمة القوة الأمريكية: كيف يرى الأوربيون أمريكا تحت حكم بايدن؟». ويقول التقرير إن معظم الأوربيين سيرضيهم انتصار بايدن في انتخابات الرئاسة المقبلة، لكنهم لا يعتقدون أن بايدن يمكن أن يساعد أمريكا على استعادة مكانتها كقيادة مؤثرة للعالم. وجرى تفسير تلك الرؤية على أنها تعني الترحيب بأي أدوار أوروبية تجاه الأزمة، والتي تنفرد فيها أمريكا بالقرار. وهو ما يتمثل بشكل ما في التحرك الأخير للمستشار الألماني. وبدأت تتوالى تحليلات خبراء سياسيين أوروبيين، منهم من توقع أن تتعرض المواقف الأوروبية تجاه أمريكا إلى تغييرات شاملة، وأن هناك أغلبية بينها تعتقد أن النظام السياسي في حالة ضعف، وأن أوروبا لم تعد تستطيع الاعتماد كلية على أمريكا للدفاع عنها.
وفي مجال التفسيرات لاحتمال حدوث تغييرات تجاه السياسات الحالية للتعامل مع حرب أوكرانيا، والمخاوف المتصاعدة من أي صدام محتمل مع روسيا، فإن الكثيرين يرون أن النظام الأمريكي لم يعد على نفس قوته المعهودة، ما سيدفع بايدن في حالة فوزه بالرئاسة لإعطاء أولوية لمحاولة التصدي لعوامل ضعف النظام، ومنها الانقسامات الداخلية، والتي تؤثر بالضرورة في قدرة النظام على رسم السياسات وتنفيذها، إضافة إلى تراجع صورة أمريكا في نظر دول وشعوب أخرى كانت ترى في أمريكا، القيادة القادرة على حل أزماتها. وهو ما يحتاج منها إلى إعادة إثبات قدرتها وجديتها في التصدي للمشاكل التي تواجه هذه الدول وشعوبها، مثل أزمة تغير المناخ والسلام في الشرق الأوسط، شاملاً حل النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والعلاقة مع الصين، والأمن الأوروبي.
كل هذا أوجد في أوروبا نظرة تحاول أن تفسر موقف شولتس الأخير من إعلان رغبته في استعادة التواصل مع بوتين هاتفياً، ودعوته لسلام عادل ينهي الحرب في أوكرانيا، على أنه تعبير عن نهج أوروبي خالص، وليس ملتصقاً كما هو الحال بالتحركات الأمريكية، وربما تؤدي إلى فتح الباب المغلق أمام الدخول إلى مفاوضات لحل سلمي لأزمة أصابت أضرارها دول وشعوب العالم أجمع.
التعليقات