في خضم قتامة الوضع القائم في قطاع غزة ومجاهيل مآلاته المنتظر بلوغها بعد المنحدر اللاإنساني واللاأخلاقي الذي إليه أخذتنا اللامبالاة الإسرائيلية بقدسية الأرواح وجلال الإنسان، تظهر بين الفينة والأخرى على وسائل التواصل الاجتماعي تشكيّات ومناشدات بالسماح للمواطنين بإقامة وقفات تضامنية مع الشعب الفلسطيني الصامد في غزة جراء ما يناله من قصف وتفجير وقتل لم يسبق له مثيل. وهي مطالبات لا يمكن للإنسان إلا أن يتفق معها إذا كانت هذه الوقفات حقًا من أجل التضامن مع الشعب الفلسطيني، إذ ما الضمانة في أن تكون هذه الوقفات هادفة فعلاً لدعم الشعب الفلسطيني في مواجهته آلة الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة، وفي ألّا تستغل لرفع شعارات أخرى لن أذكر بسوء مسمعها على آذاننا وسقم توجهها؟
واحدة من هذه المناشدات كانت لمواطن بحريني يطلب السماح للبحرينيين، سنّة وشيعة (هكذا جاء في مناشدته في الفيديو ولا أعرف السبب في ذلك ولكن لي رأي أحتفظ به)؛ ليظهروا مثل هذا التضامن للشعب الفلسطيني أولاً ولشعوب العالم ثانيًا. شخصيًا لا أشك في منطقية مطلبه ومطالب آخرين إن وجدت، فالتضامن مع الأشقاء متطلب قومي وإنساني تفرضه المحنة التي يواجهها الفلسطينيون، لكن ألا يبدو لك، قارئي العزيز، أن هذا الطلب يتعامى عما هو جارٍ ومتخذ على مستوى الحكومة والشارع؟! إن في هذا التعامي إنكارًا بأن البحرين حكومة وشعبًا أظهروا تضامنًا كبيرًا سواء بدءًا من الجهود الجبارة التي يقوم بها حضرة صاحب الجلالة المعظم لضمان حل دائم للقضية الفلسطينية يتناغم ومبادرة السلام العربية، وذلك من خلال تواصله المكثف واتصالاته الفعالة مع زعماء دول العالم المؤثرين، وعبر توجيهه السامي بإرسال المساعدات إلى أشقائنا في غزة، وبإطلاق حملة وطنية لجمع التبرعات من خلال تلفزيون البحرين. هذه إجراءات تضامنية واجبة اتُخِذت على مستوى الدولة وأظنها تكفي؛ لأن ما زاد على هذا قد تكون له انعكاسات غير مرغوبة على الأمن العام، خصوصًا وأن بين ظهرانينا من يستثمر مثل هذه الفعاليات ليندس تفعيلاً لأجندات مشبوهة ليست القضية الفلسطينية فيها إلا شعار براق لجلب تعاطف شعبي تعمى به الأبصار عن حقيقة المضمر من أعمال هؤلاء، ولعل في هذا إجابة عن سؤالنا السالف. ثم من قال إن كثرة الوقفات التضامنية ستوقف عدوان الإسرائيليين أو إنها قد حررت من قبل أوطانًا أو إنها ستحرر فلسطين؟!
من وجهة نظري أرى أنه لا ينبغي أن نحذو حذو المجتمعات الغربية فيما يتعلق بإقامة الوقفات الاحتجاجية لإظهار التأييد للشعب الفلسطيني في غزة، ذلك أن تلك المجتمعات الديمقراطية والحيّة تقاوم دعم حكوماتها غير المشروط لإسرائيل، وتضغط لوقف العدوان الهمجي ونشر القتل في عموم الأراضي الفلسطينية. الحكومات الغربية تتبع الولايات الأمريكية المتحدة في اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يرسخ العدوان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وهنا، في رأيي، تكمن أهمية الوقفات الاحتجاجية الشعبية في بلدان الغرب، فهي تضغط على حكوماتها لتتخذ مسارًا آخر غير المسار الأمريكي، فوقفات القوم هناك يحركها وازعان: إنساني استفزته مشاهد الإبادة الوحشية التي تمارسها آلة الحرب الصهيونية في غزة بمباركة غربية، ووطني دوافعه تحرير القرار الحكومي من التبعية العمياء لسياسات أمريكية أثبت التاريخ فشلها وتخبط صناعها وانحيازهم الأعمى لكل ما يخدم مصالح أرباب السياسة الأمريكية الموجهين بإيديولوجيا دينية لا تختلف في شيء عن المنطق الإقصائي المتحكم في «إسلامنا السياسي».
توافقت كثير من الدول المعنية بالقضية الفلسطينية على المنحى الدبلوماسي والحوار لحل القضية الفلسطينية، وقد قطعت هذه الدول شوطًا طويلاً فيه، وأقيمت السلطة الوطنية في رام الله، واستعادت مصر سيناء وأقيمت علاقات دبلوماسية مع عدد من الدول ومنها مملكة البحرين، كل هذا يبشر بأن هناك بارقة أمل في إنهاء الصراع إلا أن ثمة تنظيمات سياسية ارتأت بأنها تخسر من العملية الدبلوماسية وسهل معها ارتهانها لدول من مصلحتها زعزعة استقرار الأنظمة الشرعية وعلى رأس هذه الدول إيران، التي كلما اقتربت الدول المعنية بالقضية الفلسطينية من إنجاز نجاح ما في عملية السلام الشاملة حرضت المنظمات المرتهنة لها، ولعل هذا ما حدث بالضبط في غزة على يد حركة «حماس» التي تضغن عداءً مستحكمًا للمملكة العربية السعودية ولدول مجلس التعاون، باستثناء قطر، رغم ما تبذله هذه الدول من جهود لدعم عملية السلام وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
التجربة، منذ احتجاجات الدوار قدمت للدولة دروسًا بأن أغلب الوقفات التضامنية، المرخص منها وغير المرخص، إن لم يكن كلها، تتجه لمناوأة الدولة في قراراتها الحصرية في إقامة العلاقات مع الدول، ورسم سياستها الخارجية التي تتوافق مع سياسة دول مجلس التعاون التي تعمل على وقف الحرب على غزة، وليست دعوة مجلس التعاون مجلس الأمن إلى اتخاذ قرار يتوافق عليه بشأن الوضع في غزة والتطورات الأخيرة في المنطقة إلا آخر مظهر من مظاهر هذه الجهود الجبارة التي ستخلد في التاريخ رمزًا للحكمة والرصانة والتعقل على عكس الفورات الوجدانية والشطحات الشعبوية التي تتعالى من هنا وهناك وتوجه مع الأسف شريحة عريضة من الناس لم تنجح بعد في سماع صوت العقل.
التعليقات