ليس هناك حدود لعمليات غسل الأموال والجرائم المرتبطة بها حول العالم. هذه النتيجة تتفق واقعيتها مع مؤسسات دولية معنية بمكافحة هذه الجريمة المتوالدة. على الرغم من الإجراءات والقوانين الصارمة المشددة، إلى جانب الملاحقات الأمنية التي لا تتوقف، إلا أن ما يمكن وصفه بـ"اقتصاد الأموال القذرة" يكبر وتتسع دائرته، خصوصا في أوقات الأزمات الكبرى. ولأن هذه الساحة متشعبة ومعقدة جدا، بأدوات متجددة، تعترف المؤسسات المعنية بصعوبة الوصول إلى مستويات مرضية من إحكام القبضة عليها تماما. فالمراحل التي يجري عبرها تحويل هذا النوع من الأموال إلى النظام المالي العالمي الشرعي، هي الأخرى تجددت بفعل "ابتكارات" مرتكبي هذه الجريمة، حتى إن السلطات المختصة أصبحت تمارس جزءا من عمليات الملاحقة، بـ"ذهنية" من يرتكبون هذه الجرائم عموما. فقد أثبتت التجارب أن اللجوء إلى هذه الذهنية، يعطي دفعا قويا للجهات المختصة.

في الفترة الماضية تعاظمت عمليات غسل الأموال. على الرغم من أنه لا توجد جهة مهما كانت تتسم بالقوة والحرفية يمكنها أن تحدد القيمة الحقيقية الناتجة عن هذه العمليات سنويا، إلا أن الأموال القذرة تصل إلى مستويات كبيرة للغاية، على الرغم من التفاوت في التقديرات بين جهة وأخرى. فعلى سبيل المثال، يقدر صندوق النقد الدولي جريمة غسل الأموال عالميا بـ4.6 تريليون دولار سنويا، أو ما بين 2 و5 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويعتقد مكتب الأمم المتحدة المعني بمكافحة المخدرات والجريمة عموما، أن حجم هذه الأموال يصل كل عام إلى ما بين 800 مليار دولار وتريليوني دولار. بينما يقدر معهد "بازل" المالي في سويسرا أن القيمة الإجمالية تبلغ 500 مليار دولار سنويا.

وبصرف النظر عن هذا التفاوت الطبيعي في تقدير حجم الأموال القذرة التي تدخل بالفعل إلى النظام المالي العالمي، فعمليات غسل الأموال تبلغ مستويات باتت مقلقة أكثر من أي وقت مضى، خصوصا أنها تدخل ضمن نطاق سلسلة لا تنتهي من الجرائم، بما في ذلك الجريمة المنظمة بكل حراكها، والإرهاب، وسرقة المال العام، والإضرار بمقدرات الشعوب، والاحتيال، والفساد، وغير ذلك من الجرائم التي تجاوزت حتى التعريف الذي أوردته اتفاقية فيينا لعام 1988 للأموال القذرة. لماذا؟ لأن الجرائم المستمدة من هذه الأموال "تتكاثر" وتتنوع، بل وصارت أكثر "ابتكارا" من ذي قبل. علاوة على آثارها التدميرية لمؤسسات مالية وغير مالية. في الأعوام الماضية أدت جرائم غسل الأموال إلى انهيار بنوك حول العالم، وإن أسهمت لفترة بسيطة في إسناد بعض المصارف خلال الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت في 2008، باعتراف مسؤولي هذه البنوك أنفسهم، ضمن التحقيقات التي تلت الأزمة، التي هدفت إلى معرفة كيف حصلت.

التطورات التي تشهدها الجرائم المالية عموما، دفعت حتى "صندوق النقد" للتأكيد على أن "الجرائم المالية العابرة للحدود، وجدت لتبقى". وهذا يطرح سؤالا مهما يتعلق بكيفية الحد من هذه الجرائم في ظل نظام مالي متصل عالميا. وهذا النظام يوفر بالفعل خدمات هائلة الأهمية للمؤسسات والأفراد على حد سواء. وهذه مهمة صعبة للغاية، خصوصا أن المجرمين يستغلون بالفعل الشبكة المعقدة لنقل الأموال غير المشروعة عبر الحدود، ما يدفع نشاطهم إلى مستويات عالية، مع توسع نطاقه. ولا شك في أن التعاون الدولي الراهن لمكافحة الجرائم المالية، يسهم بصورة كبيرة في محاصرة الأفراد والمنظمات المعنية بهذا النوع من الجريمة، إلا أن مسؤولين في غير بلد يعتقدون أن التعاون ينبغي أن يكون أكثر قوة في المستقبل، خصوصا في ظل التطوير السريع للأعمال الإجرامية على الصعيد المالي، إضافة إلى زيادة نطاق تشابك النظام المالي على الساحة الدولية.

المشكلة المتصاعدة هنا، باتت تتعلق بمدى الثقة بالنظام المالي العالمي نفسه. ففي النهاية عوائد الجرائم المالية وعلى رأسها غسل الأموال، هي في الواقع تكلفة تدفعها المجتمعات حول العالم. أي أن الخسائر الكبيرة تختص بالاقتصادات المحلية، وبالتالي تنسحب على الاقتصاد العالمي. ويضع "صندوق النقد" المشكلة في عدم تحقيق مكافحة الأموال القذرة قدرا كبيرا من النتائج، على الجانب المحلي لها، حيث تتأخر عمليات المتابعة والتنسيق، ما يعطي مساحة زمنية للمجرمين لتمرير هذه الأموال ضمن النظام المالي العالمي ككل. وبالطبع تقوم البنوك بدور مهم في عمليات المكافحة، إلا أنها هي الأخرى تحتاج إلى تعاون كبير ليس فقط من جانب المؤسسات المعنية، بل من الأفراد أيضا الذين يمثلون دائرة عملائها.

المسألة معقدة ومتشعبة وصعبة بالفعل، ولا يمكن مواجهتها بالشكل الأمثل، سوى بالتعاون الدولي القوي. صحيح أن هذا التعاون أثمر في الأعوام الماضية، لكن الصحيح أيضا، أنه يعاني ثغرات جمة، بما في ذلك سرعة وصول الأموال القذرة إلى الأنظمة المالية المحلية المشروعة، ما يجعل متابعة مصدر هذه الأموال مستحيلا. في المحصلة، كل انتصار في هذا الميدان من جانب السلطات المختصة، يعد بمنزلة تحصين مهم للمكاسب المالية الشرعية ومقدرات الشعوب نفسها.