حتى الآن لا تبدو الملامح التي سيستقر عليها الشرق الأوسط عقب انتهاء حرب غزة، حيث إن نتائج هذه الحرب سوف تؤثر كثيراً على الوضع في منطقتنا.. القضية الفلسطينية هي الأولى في عقول وقلوب العرب والمسلمين، وقد حاول البعض في منطقتنا وسعوا إلى تخطيها على أمل أن تفي إسرائيل ببعض مما تعهدت به، وكانت المفاجأة «طوفان الأقصى»، الذي أيقظ العالم؛ وذكّرهم بالقضية الفلسطينية التي سعى نتنياهو عبر فترات حكمه الطويلة لإسرائيل، دفنها ونسيانها والتآمر على السلطة الفلسطينية، إلا أنه يبدو أن اليمين الإسرائيلي، بشكل خاص، لازال يعيش أوهاماً وأحلاماً لا صلة لها بالواقع، ومعبِّرين عن رغبتهم في تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر، وتهجير فلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن، والسعي لإقامة دولة (إسرائيل الكبرى) التي يحلمون بها.. ويعتقدون أن العرب سيتخلّون عن أراضيهم التي يريدون الاستيلاء عليها، وأن لا قيمة للرأي العام العالمي.
اليمين الإسرائيلي مخطئ في أحلامه.. فحكومة هذا اليمين فشلت خلال أكثر من شهرين في إنهاء عدوانها على غزة.. وأن الهالة التي كانت تحيط بقوة إسرائيل العسكرية والتقنية؛ بدَّدها هجوم «طوفان الأقصى».. ولازال الفلسطينيون يُطلقون الصواريخ على إسرائيل من غزة رغماً عن الكثافة العسكرية والنارية التي سُلِّطت على غزة خلال كل هذه الفترة الطويلة، ورغماً عن الدعم العسكري غير المحدود الذي تقدمه واشنطن ودول غربية أخرى لإسرائيل.
إذا لم يتم القبول في إسرائيل بحق الفلسطيني في دولة خاصة به، وأصر الإسرائيلي على رفضه حل الدولتين، سيكون من الصعب تصوُّر كيف يكون هناك استقرار في إسرائيل، كما أن على الإسرائيليين أن يعترفوا أنهم كانوا دائماً بحاجة إلى دعم أمريكي غير مشروط كلما تعرضوا لهجوم من جيرانهم، وهو أمر غير مضمون على المدى الطويل.. وهنالك عوامل أخرى، مثل الوجود الصيني الصاعد داخل المنطقة، واتجاه عدة دول عربية، وخاصة الخليجية، إلى بناء اقتصاديات قوية تنعكس على قواها الدفاعية، في الوقت الذي تتضاءل القوة العسكرية الإسرائيلية مع احتمال انحسار الدعم الأمريكي غير المشروط.
ذكَّرتنا وفاة وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر، بعمر مائة سنة، أن حرب أكتوبر السابقة، قبل السابع من أكتوبر هذا العام، والتي وقعت في السادس من أكتوبر عام 1973م، حينها فتحت واشنطن مخزونات أسلحتها لإسرائيل، وأرسلت أساطيلها إلى البحر الأبيض المتوسط، وشكَّلت جسراً جوياً إلى العريش، حيث كان الإسرائيليون يحتلون سيناء في ذلك الوقت، وشاركت قوات أمريكية وأوروبية، كما يحدث اليوم، في الدفاع عن إسرائيل.. فهل يعتقد اليمين الإسرائيلي أن هذا الوضع سيستمر. وهل لم يلاحظوا التفاعل السلبي تجاههم في بعض الأوساط الأمريكية والأوروبية، واحتمالات تزايده؟.. أليس من الأفضل السعي للتعايش مع الفلسطيني الذي يشاركهم الأرض بإعطائه حقوقه الإنسانية، وإتاحة الفرصة له لبناء اقتصاد وإدارة تسعى لتوفير العيش له بدون مضايقات؟، حيث إن هذا هو الضمانة الرئيسية لتحقيق الإسرائيلي الأمن لنفسه، بدون انتظار النجدة من أمريكا وأوروبا.
هنالك عالم جديد يتم تكونه الآن، وإذا رغب الإسرائيليون أن يكونوا جزءاً من هذا العالم، فعليهم، مثلما هو الأمر مع غيرهم، التخلي عن التطرف، ولجم المتطرفين، ومنعهم من التأثير على الأمن، إذ سيكون من الصعب على دول الشرق الأوسط قبول دولة يحكمها ويوجهها المتطرفون، الذين يستغلون الدين لإصدار الفتاوى الخارجة عن عالم اليوم، ويريدون إرجاع العالم إلى عصورٍ سابقة، وهو ما يعمله رجال دين إسرائيليين يعتقدون أنهم يحكمون بإرادة إلهية، وهو اعتقاد لرجال دين آخرين أيضاً.
إيقاف التطرف الديني الذي يهيمن على السياسة الإسرائيلية اليوم، والقبول بالدولة الفلسطينية، سوف يفتح الطريق إلى أمن داخلي وتعاون إقليمي، أما الحلول العسكرية فإنها حلول مؤقتة وغير مضمونة نتائجها.
التعليقات