تواجه إسرائيل في حربها على غزة قوة عسكرية محترفة ومنظمة تنظيماً رفيع المستوى تملك التخطيط والعزيمة، وهي كانت تتوقع عندما شنت حربها على القطاع مقاومة شديدة، لكن ربما ليس بهذا القدر. مئة يوم انقضت من الحرب على غزة وفلسطينييها تحت شعار القضاء على "حماس" و"إرهابييها" وما زالت الحركة وقادتها في الميدان، حتى في شمال القطاع الذي تعلن إسرائيل أنها سيطرت عليه، وما زالت الصواريخ تطلق على مستعمرات غلاف غزة من معظم مناطق القطاع. لكن ليس هذا كل شيء، فبحساب الربح والخسارة ما زالت إسرائيل خاسرة حتى الآن ولن يستطيع نتنياهو إعلان أي مكسب، اللهم أعداد الضحايا من الفلسطينيين وأعداد البنايات المهدمة واغتيال القيادي في "حماس" صالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت.
إسرائيل محكومة بالاستمرار في الحرب ولا تستطيع وقفها الآن، الطاقم الحاكم في تل أبيب وضع أهدافاً معلنة يصعب عليه التراجع عنها، لأن ذلك يعني خسارته وسقوطه وهو يحاول بكل السبل تجنب تجرع تلك الكأس. نتنياهو ليس من النوع الذي يتقبل الهزيمة بسهولة، لذلك يواصل تعنته الذي عبر عنه قبل يومين بصراحة متناهية. الحرب مستمرة بالوتيرة نفسها حتى تحقيق أهدافها ولن تخضع حكومته لأي ضغوط لا من أميركا ولا من غيرها.
صحيح أن نتنياهو وتحالفه يواجهان انقسامات داخلية كبيرة بين فرقاء التركيبتين السياسية والعسكرية الأمنية، لا سيما بينه وبين وزير الدفاع يوآف غالانت، وأخيراً بين المتطرفين الأهوجين وزير الأمن إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش على تمويل الشرطة، إلا أن الطبقة السياسية الإسرائيلية تتجه من اليمين إلى اليمين المتطرف والخلافات هي على الأسلوب وطريقة إدارة الحرب وليست على الحرب نفسها. في هذه النقطة كلهم نتنياهو. وتاريخياً كل زعماء إسرائيل كانوا كذلك وكلهم ارتكبوا المجازر بحق الفلسطينيين منذ ما قبل قيام الدولة حتى الآن. وحتى على المستوى الشعبي يصعب الرهان على تغيير الاتجاهات السياسية والأيديولوجية للإسرائيليين، فالمجتمع الإسرائيلي يتجه أيضاً نحو اليمين المتطرف ظناً منه أن هذا اليمين هو الذي يوفر له القوة والمنعة والأمن، وهذا المجتمع المشبع بأيديولوجية التفوق العرقي والديني والحامل إرثاً طويلاً من الانعزال والتوجس والتربص والتقوقع... والخوف، يبحث عن رجال حرب لا عن رجال سلام. أما الأصوات السياسية وحتى الشعبية المعارضة لنتنياهو، فهي تعارضه لأنه تأخر في الحسم ولأنه لا يقودها جيداً، أو كما يريدها أصحاب تلك الأصوات. ومن بين تلك الأصوات يبرز كتاب وصحافيون يتحدثون عن المستقبل وتوقعاتهم بزوال إسرائيل ككيان ودولة، ليس حباً بالفلسطينيين، بل خوفاً وتحذيراً من أن تؤدي السياسات المتهورة للطبقة الحاكمة إلى عزلة إسرائيل وسقوطها أخلاقياً (لم تسقط بعد؟) وعسكرياً.
أمس، قال مسؤول أميركي إن واشنطن "ستتسامح" مع تمديد إسرائيل أمد الحرب. يعني ذلك أن أميركا التي تتحرك في كل الاتجاهات لا تسعى إلى وقف الحرب على غزة، هي مثل نتنياهو تريد استمرارها حتى "تحقيق أهدافها" الإسرائيلية. أميركا تريد الأميركيين الستة لدى "حماس" عبر مقايضتهم بشاحنات غذاء، أما حركتها الدبلوماسية فلا تتضمن أبداً وقف الحرب، والحديث عن خلافات وتباين مع نتنياهو لا أثر كبيراً له على السياسة الأساسية لواشنطن القائمة على مبدأ إسرائيل قبل كل العالم، وهذا ما بات يدركه العالم كله والعرب خصوصاً. نعم تختلف الدولتان على بعض التفاصيل لكنه "خلاف أهل وأخوان".
لكن أخطر ما تواجهه إسرائيل لا يأتي من الداخل وخلافاته، إنه يأتي من الخارج، فإسرائيل المتعثرة في غزة والمترددة على الجبهة اللبنانية تواجه عالماً بدأ يتغير في نظرته إليها. موجعة جداً دعوى جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل واتهامها بتنفيذ إبادة جماعية عنصرية. كان ملف الدعوى قوياً والرد الإسرائيلي مجرد ثرثرة لا سند لها. بالحجج قارع ممثلو الادعاء وقدموا الأدلة بأسلوب قانوني مقنع وبنفحة إنسانية مؤثرة وبخبرة من عايش نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا وعانى ظلمه وويلاته. أخرجت جنوب أفريقيا نتنياهو عن طوره فهاجمها بأقذع العبارات هي ومحكمة العدل الدولية، وصفهما بالنازية وبالحضيض الأخلاقي وبالوقاحة...
دعوى جنوب أفريقيا بدأت تتدحرج ككرة الثلج مع إعلان أكثر من دولة نيتها الانضمام إليها وآخرها سلوفينيا أمس، وستعقبها دول أخرى تباعاً.
ليست محكمة العدل الدولية وحدها من تهز صورة إسرائيل بقوة لدى الرأي العام العالمي، الفضل كبير أيضاً للسوشال ميديا ومشغليها، لكن أهمية دعوى جنوب أفريقيا أنها ملتصقة التصاقاً وثيقاً برجل ذي مصداقية دولية لا يضاهيه فيها أحد على الإطلاق في التاريخ المعاصر هو نيلسون مانديلا بطل النضال الطويل والمرير ضد نظام الفصل العنصري قبل الأخير في العالم (إسرائيل هي النظام الأخير). لم تكن الدعوى لتكون بهذا القدر من التأثير والاستحواذ على ثقة الرأي العام لو قدمتها أي دولة أخرى. كانت خطوة موفقة ومدروسة سيكون لها تأثيرها الكبير حتى لو لم تؤد إلى أي إجراءات بحق إسرائيل، لأن الإجراءات مرتبطة بأميركا وأميركا لا "تسخى" بإسرائيل أبداً.
التعليقات