فجأة اكتشف العالم أن 12 موظفاً في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في غزة "أونروا" يشاركون في القتال في صفوف "حماس" منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وبسرعة قياسية اتخذ قادة "العالم الحر" قراراتهم المتتالية بوقف تمويل الوكالة بناءً على اتهامات إسرائيلية لم تنته تحقيقات الأمم المتحدة من البت فيها بعد.
ارتبط اسم الوكالة بنكبة 1948 عندما اقتلع الفلسطينيون من أرضهم وأجبروا على الفرار الى الدول المجاورة وسموا لاجئين، على أمل العودة التي لم تتم حتى الآن لا سلماً ولا حرباً. أنشأت القوى المؤثرة والمسؤولة فعلياً عن مأساة الفلسطينيين الوكالة عام 1949 لإغاثة اللاجئين حيثما حلوا، ومنذ ذلك الحين تقدم الوكالة مساعدات للاجئين في المخيمات الفلسطينية تشمل التعليم والطبابة والغذاء والسكن وغيرها من الخدمات الضرورية، ويستفيد منها نحو 6 ملايين فلسطيني ممن يعانون ظروفاً اقتصادية صعبة، حتى أصبحت جزءاً من حياتهم وهويتهم. باتت الوكالة مرادفاً للجوء، وعندما يُذكر المخيم تُذكر الوكالة، وعندما يُذكر المستشفى تُذكر الوكالة، وعندما تُذكر المدرسة تُذكر الوكالة. إلى هذا الحد التصق اسم الوكالة باسم اللاجئ الفلسطيني.
كان إنشاء الوكالة استجابة إنسانية لحاجات ملحة للمشردين، ولكن أيضاً تعويضاً مضمراً أو شعوراً بالذنب بعدما شاركت الأمم المتحدة التي يسيطر عليها كبار العالم في مأساة الفلسطينيين، وخلال مسيرتها تعرضت الوكالة لانتقادات ولتخفيضات في موازناتها مترافقة مع حملة إسرائيلية متواصلة عليها، لا سيما بعد إقامة السلطة الفلسطينية وتفرد "حماس" بإدارة قطاع غزة. كانت الوكالة دائماً تحت مجهر الاستخبارات الإسرائيلية وكذلك الأميركية والأوروبية عموماً.
"التحالف الدولي" غير المعلن الذي هب لنجدة إسرائيل في اليوم التالي لهجوم "حماس" هب بالسرعة نفسها ليقطع التمويل عن خدمات الأونروا، في وقت كان ينبغي فيه مضاعفته عشرات المرات بسبب الحرب على غزة التي هي نكبة ثانية للشعب الفلسطيني، ناهيك بالوضع المزري في مخيمات لبنان وسوريا والأردن، والدول الثلاث تعاني أوضاعاً اقتصادية واجتماعية معقدة، ومعرضة لمخاطر كثيرة ربطاً بالوضع الإقليمي المتشابك والمتوتر والمهيأ للانفجار.
الدول نفسها: أميركا وبريطانيا وكندا وفرنسا وإيطاليا واليابان وأستراليا وألمانيا وفنلندا ... هالها أن يكون 12 موظفاً في الأونروا من أصل 13 ألفاً في قطاع غزة يقاتلون في صفوف "حماس"، فسارعت إلى إدانة الوكالة بأمها وأبيها وقطعت التمويل عقاباً، فيما صمتت هذه الدول قبل يوم واحد حيال تقرير محكمة العدل الدولية الذي أشار صراحة إلى عمليات إبادة ترتكبها إسرائيل في حق أهل غزة. قرار يأتي رداً على قرار.
يبدو قرار هذه الدول منسقاً ومعداً مسبقاً بالتنسيق مع إسرائيل صاحبة الاتهام وموثقته، إنه جزء من لعبة الحرب الدائرة، وليست خفية مقاصده، حتى لو ثبتت مشاركة الـ12 موظفاً في عملية "حماس".
الواضح من هذا القرار الجماعي ومن الصمت إزاء تقرير محكمة العدل الدولية أن كل الكلام "الإنساني" عن المساعدات وعن الحلول هو مجرد كلام استهلاكي، فالحرب ماضية في مسارها الإسرائيلي بدعم غربي. العالم "يتسلى" بتعداد عدد الضحايا الفلسطينيين وعدد الشاحنات التي تدخل إلى غزة، وبمفاوضات تتعثر حيناً وتنطلق حيناً، موفراً لإسرائيل الوقت اللازم للقضاء على ما تبقى من عمران وبنية تحتية وبشر.
قطع التمويل هو عملية ضغط اقتصادية على الوضع الفلسطيني برمّته لدفعه، مع الحرب القائمة، إلى التسليم بهزيمة تاريخية يصعب النهوض منها، وهذا أمر ليس مضمون الحصول.
بالتأكيد سينعكس القرار سلباً على أوضاع الفلسطينيين عموماً، لكن "حماس" لن تبدو وهي تخوض حربها، معنية كثيراً به، وهكذا يكون بمثابة عقوبة جماعية للشعب الفلسطيني برمّته وليس لـ"حماس"، تتخذها دول غنية ضد فقراء.
التعليقات