عرفت أوروبا منذ القرن السادس عشر، وبالتحديد مدينة البندقية عام 1516، إقامة أول «غيتو» يسكن فيه اليهود وحدهم، بأوامر من السلطتين الدينية والسياسية ممثلتين ببابا الفاتيكان والإمبراطور.

و«الغيتو» هو مكان محاط بالأسوار وله بوابة أو أكثر، معزول عما يجاوره من أماكن وأحياء، وتوزعت الآراء في أصل الكلمة بين أنها مشتقة من كلمة ألمانية قريبة منها تعني «المنطقة المحاطة بالأسوار»، وبين أنها تعود لكلمة إيطالية تعني «مصنع المدافع»، وهو المكان الذي أقيم بقربه أول «غيتو» في البندقية، وبين أنها ذات أصل عبري يعني «الانفصال» أو الانعزال.

في كل الأحوال عكس إنشاء أول «غيتو» بالبندقية ثم انتشاره في معظم المدن الأوروبية، التي تتركز بها جاليات يهودية، تعقد العلاقات بينها وبين المجتمعات الأوروبية، التي تعيش بها، فقد كان تداخل هذه الجاليات مع طبقات المجتمع العليا ومع السلطات السياسية مرتكزاً على العلاقات المالية، التي لعبت فيها هذه الجاليات أدواراً مركزية، ما نتج عنه حصول أعضائها على مراكز متميزة في شبكات السلطة الحاكمة، وقد نتج عن هذه التعقيدات واعتقاد كثيرين في دول أوروبا، بوجود هيمنة الجاليات اليهودية على الطبقات العليا والشؤون العامة بها، أن قرروا عزل هذه الجاليات في «الغيتو»، توقياً لتوسع نفوذهم في المجتمعات والدول.

وأصبح «الغيتو» منذ الإنشاء الأول رمزاً لعديد من المعاني، سواء تلك التي تتعلق بالمخاوف اليهودية من «الجيران»، أو بشعور هؤلاء الأخيرين، والمبالغة فيه أحياناً بما اعتقدوا أنه «خطر» الهيمنة اليهودية على مجتمعاتهم وحكوماتهم، أو ما يخص تنامي الإحساس العام بداخل الجاليات اليهودية بوجود «اضطهاد» موجه لهم من كل هؤلاء.

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، والهزيمة الساحقة لألمانيا النازية، التي مارست أبرز أشكال العنصرية والعزل والاستهداف للجاليات اليهودية، وعديد من المجموعات البشرية والقومية الأخرى، ظن كثيرون أن ظاهرة «الغيتو» قد انتهت إلى الأبد، وأضحت جزءاً من تاريخ غابر لن يعود مرة أخرى.

وزارد هذا الاعتقاد رسوخاً بعد تأسيس «الدولة اليهودية»، حسب تعبير تيودور هيرتزل، عام 1948، فقد حظيت هذه الدولة باعتراف عالمي واسع، وأصبح لليهود دولة يمكن لها أن تعيش كأي دولة متحررة من مشاعر وذكريات «الغيتو»، لو أنها التزمت بمقررات العدل والشرعية الدولية، التي أقرت في نفس قرار التقسيم الأممي، بإقامة دولة فلسطينية بجوار «الدولة اليهودية» على أرض فلسطين التاريخية، ولكن الأيام والسنين أظهرت العكس تماماً، فقد رفضت مختلف حكومات «الدولة اليهودية» المتعاقبة أي إنشاء للدولة الفلسطينية، ودخلت في حروب متعاقبة مع كل جيرانها العرب، واحتلت في أوقات كثيرة– ولا تزال– أجزاء من أراضيهم.

ومع تعاقب الأحداث، وجنوح «الدولة اليهودية» إلى التوسع الاستيطاني في ما تبقى من أرض فلسطين مخصص للدولة العربية فيها، راحت مشاعر «الغيتو» القديمة تتنامى في أوساط المجتمع، والحكم في إسرائيل.

وكان أرييل شارون هو من بدأ إقامة أول أسوار «الغيتو» الجديد حول «دولة اليهود» في عام 2002، بإنشاء «جدار العزل العنصري» بين إقليمها وبين مدن وبلدات الضفة الغربية، التي تحتلها منذ يونيو 1967، ليجاور طوله 670 كيلو متراً، في محاولة لحماية تلك الدولة مما يعتقد أنه استهداف الفلسطينيين تحت الاحتلال لها، والذي لم يكن في حقيقته سوى ردود أفعالهم الطبيعية، للدفاع عن أنفسهم وأراضيهم تجاه الاعتداءات والتوسعات الاستيطانية اليهودية.

وأتت الحرب الإسرائيلية الدموية الراهنة على قطاع غزة، لتفاقم من مشاعر الخوف والعزلة المرضيين في أوساط الحكم والمجتمع في «دولة اليهود»، ولتدفع قيادتها المتطرفة الحالية إلى الإعلان عن سعيها لإقامة منطقة عازلة حول القطاع تضاف إلى جدار الحماية الأمنية المقام حوله من عام 2005، ويبدو واضحاً من التحركات العسكرية الإسرائيلية الحالية في غزة ومن التصريحات الرسمية لقيادتها أنها لا تأبه لاعتراض العالم كله– وفي مقدمته الولايات المتحدة– لأي اقتطاع من أراضي غزة لإقامة المنطقة الأمنية، وأنها تستسلم فقط لمشاعر بالية، تعود لقرون طويلة مضت، وأنها مصممة على أن تكون «غيتو» قديماً متجدداً، وليس «دولة» حديثة كغيرها من الدول.