سارت الرُّكبان بما كتبه ابن خلدون (ت: 808هجرية) بخصوص العرب، ونقل عنه آخرون، وكأن الجميع جعلوا مِن الرّوايتين، التي سأل في إحداهما سُليمان بن عبد الملك (ت: 99هجريَّة)، عن فقهاء الأمصار، ولم يظهر منهم غير عربي إلا واحد، فقال: «كادت تخرج نفسي ولا تقول واحدٌ عربيّ» (ابن العديم، بُغية الطَّلب). أمَّا الأخرى: استفسار الأمير العباسيّ عيسى بن موسى (ت: 167هجريّة)، وكان متعصباً للعرب، عن الفقهاء، ولكثرة ما ذُكر بينهم مِن غير العرب، يقول الرّاوي: «رأيتُ فيه الشَّر، فقلت: إبراهيم، والشّعبي. قال: فما كانا؟ قلت: عربيان. قال: الله أكبر! وسكن جأشه» (ابن عبد ربه، العقد الفريد).
علينا الحذر مِن الرّوايات، إذا أخذنا بالاعتبار تصاعد الشّعوبيّة آنذاك، الحركة الثقافية المعروفة، التي جاءت رداً على التّعصب الأمويّ ضد الموالي، والتعصب المذكور يُبرر بكثرة الثَّورات، التي اشترك الموالي فيها، كحركة ابن الأشعث، التي كادت تُطيح بالأمويين (80هجريّة).
يُعد ناجي معروف (1910-1977) مِن كبار المؤرخين العراقيين العرب، طالما عرفنا اسمه على أغلفة كتب التّاريخ في المدارس، كان مؤرخاً فذاً، لا يلوي أعناق الحقائق مسايرةً لاعتقاده. تجرأتُ عليه في كتابي «المباح واللامباح» (فصل تغييب الألسن)، الذي صنعته في نهاية التسعينيات، ناقداً ناقماً، تحت ضغط معاداة «البعث» بالعراق، ولم أكن معتدلاً ولا علميّاً في ما كتبته. لكن بعد زوال المؤثر، رأيت كتابه «عروبة العلماء المنسوبين إلى البلدان الأعجميّة في المشرق الإسلاميّ» (ثلاثة أجزاء)، وقارنته بمقدمة ابن خلدون، وجدتُ عنده الإنصاف للعربيّ وغير العربيّ. فكان ابن خلدون قد صنف النَّاس على الألقاب، ومَن تابعه في ذلك، فمثلاً جعلوا أبا فرج الأصفهاني (ت: 356هجرية) صاحب «الأغاني» غير عربي، والرّجل كان أموياً مروانياً.
كتب معروف راداً على ابن خلدون: «زعم العلامة ابن خلدون أنَّ حَملَة العِلم في الملة الإسلاميَّة، أكثرهم العجم، وعقد في مقدمته الشّهيرة فصلاً خاصاً، شرح فيه تلك النَّظرية، وجاء بعده حاجي خليفة، المتوفى 1067(هجرية)، فنقل نظرية ابن خلدون بحذافيرها، وأودعها كتابه «كشف الظنون»، دون أن ينسبها إلى ابن خلدون... بل عدوا كلَّ مَن انتسب إلى مدينة أعجميّة أعجميَّاً» (عروبة العلماء). أرّخ ناجي معروف لأكثر مِن ثلاثمئة عالمٍ وفقيهٍ عربي، اشتهروا بنسبتهم لمدن أعجميّة، لكنهم كانوا عرباً.
ماذا وراء تغييب عروبة العلماء، بعد صعود غير العرب إلى مراكز السُّلطة، في العهد العباسيّ، أو دوافع منع غير العرب، في الزَّمن الأَموي، مِن إمامة الصّلاة مثلاً أو القضاء، مثلما قرر الحجَّاج بن يوسف الثَّقفي (ت: 95 هجريّة)، غير التّعصب السّياسّي والاجتماعيّ؟! فكلّ تعصب يولد آخر، وإذا لم تؤخذ الإنسانيَّة، أصلاً في المعاملة، «ستبقى طويلاً هذه الأزمات» (الشطر للجواهري). نعم فند معروف ما جاء به ابن خلدون، واعتقده غيره، ببحث مرموق، لكنه جعل الإمام أبا حنيفة النّعمان (ت: 150 هجرية) عربيّاً أيضاً، ربّما رداً لكثرة ما أشيع عن فارسيته، والنُّعمان مع تعظيمه لإمامة قريش (النَّاشئ، الكتاب الأوسط)، لم يكن عربيّاً ولا فارسيّاً، إنما كان عراقيَّاً، مِن نواحي بابل، ويغلب على الظّن مِن العراقيين القدماء كالسريان.
لكننا قد نتلمس لمؤرخنا عذراً، في اعتبار أبي حنيفة عربيَّاً، وهو العذر الذي جعل فيه ابن عساكر (ت: 571هجريَّة)، الإمام الشَّافعيّ (ت: 204هجريّة) دمشقياً، فقال: «اجتاز بدمشق أو بساحلها حين ذهب إلى مصر» (تاريخ مدينة دمشق)، كي يدخله الكِتاب، فأفرد لترجمته مجلداً، والشَّافعيّ لم يصل دمشق ولم يمر بها. كذلك معروف عربيّ المحتد والهوى، ويجلُ أبا حنيفة، فأراد له أن يكون عربيّاً.
أقول: ابن خلدون على ثقله، إلا أنَّ نظريته هذه كانت خفيفة، لم يتحر لها أصول مَن وصفهم بالأعجميّة، على خلاف معروف ظهرَ سمتاً في تأليفه.
التعليقات