ضمن المميزات الكثيرة الرمزية للفن احترام العقول والنأي عن الأسلوب المباشر الذي يريح العقول ويميت التفكير.

من أكثر المشاهد رمزية في السينما المصرية ما جاء في فيلم «الإرهاب والكباب»، تأليف الراحل وحيد حامد وإخراج شريف عرفة وبطولة الفنان عادل إمام. في هذا المشهد.

وبعد لف ودوران، وصولات وجولات لعشرات المواطنين الذين وجدوا أنفسهم دون ترتيب محتجزين مع مواطن ظنت الشرطة أنه إرهابي في «مجمع التحرير»، حانت اللحظة الفارقة، وسألتهم «الحكومة» عن طلباتهم.

هنا تسمر الجميع. فالكل يحمل أطناناً من المشكلات الشخصية والعملية والحياتية والمادية والنفسية، لكن حين لاحت له فرصة توجيه طلبات واجبة النفاذ، فشل الجميع في تحديد طلبات من شأنها أن تخفف عنهم قسوة الحياة. وفي النهاية، جاء الإجماع. سيطلبون كباباً وكفتة مع السَّلطات، فهذه مصدر السعادة.

المفاهيم الفلسفية التي تحتمل تعريفات مطاطة أو تتسع لرؤى كل شخص على حدة هي الأصعب في التعامل، ومنها مفهوم السعادة.

يوم 20 الجاري كان اليوم الدولي للسعادة. موسوعة «بريتانيكا» تعرّف السعادة بأنها «حالة من الرفاهية العاطفية التي يعيشها الشخص إما بالمعنى المحدود، عندما تحدث أشياء جيدة في لحظة معينة، أو على نطاق أوسع، كتقييم إيجابي لحياة الفرد وإنجازاته بشكل عام».

بشكل عام، لو سألنا الثمانية مليارات إنسان على وجه الأرض عن مفهوم كل منهم للسعادة، سنحصل على ملايين المفاهيم. الرضا بالقليل، المال الوفير، الصحة والسكينة، الراحة في العمل، الشريك المؤتمن، البلد الآمن، وفرة الطعام والكساء، سيارة فارهة وفيلا فاخرة، أبناء أصحاء، حرية سفر وتنقل، والقائمة طويلة جداً.

اختصار القائمة في ستة عناوين عمل عظيم يحسب لمؤلفي تقرير السعادة السنوي. الدعم الاجتماعي، والدخل، والصحة، والحرية، والكرم، وغياب الفساد، تلخص أغلب ما يذكره الناس في مفهومهم عن السعادة، مع العلم أن الكثيرين منا يتأثرون بما تمليه عليهم العادات والتقاليد ومحتوى التعليم، فيجدون أنفسهم يعرفون مفهوماً كالسعادة في ضوء ما نشأوا عليه، لا من منطلق ما يشعرون به.

الشعور بالرضا بالطبع فضيلة كبرى، لكنها ربما في حد ذاتها ليست تعريفاً للسعادة. كذلك الحال لقيم مثل الصبر والجلد وغيرهما. وتظل هذه المفاهيم للسعادة من سمات الأجيال الأكبر سناً. الأجيال الأصغر سناً تتضاءل سعادتها، وهذا أبرز ما خلص إليه تقرير السعادة العالمي 2024.

ورغم أن التقرير حدد شباب أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية على وجه التحديد، إلا أنه يمكن تعميم النتيجة. رؤى العين تؤكد أن الأجيال الأصغر سناً اليوم يفتقدون السعادة بشكل ملحوظ. بالطبع هناك استثناءات، كما أن المسألة تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن فئة إلى أخرى، ومن تركيبة شخصية إلى غيرها.

وإذا كان التقرير يربط بين الـ«سوشيال ميديا» وتوغلها وتحكمها في حياة الشباب من جهة، وبين القدر الأقل من السعادة الشبابية، فهذا متوقع في ظل الاعتماد المتنامي والمفرط على الشاشات التي تحيط بالجميع 24/7، والمحتوى، سواء كان قيماً أو تافهاً، ليقيم الفرد نفسه. من يشاهده؟ من يتابع محتواه؟ كم «لايك» حصد؟ نسبة التعليقات الإيجابية مقارنة بالسلبية؟

المظهر المثالي الذي يتوق للتمتع به، المناخ الافتراضي الذي ينافس أرض الواقع ويتغلب عليها يومياً، الخوف من فقدان المتابعين أو خسارة المعجبين وغيرها باتت مصادر القلق العنكبوتي المزمن، التي تدفع شباباً ومراهقين ليكابدوا أعراضاً شبيهة بأزمات منتصف العمر.

ليست وحدها الـ«سوشيال ميديا» المتهمة بإفساد سعادة الشباب، لكن عوامل مثل انعدام المساواة بين الجنسين وكذلك بين فئات المجتمع، والتفاوت الشديد في الدخل، وأزمات السكن، وتغير المناخ، والحروب والنزاعات تقلق الصغار والشباب.

يخبرنا تقرير السعادة هذا العام أن كل ما زاد على الحد انقلب إلى الضد. الـ«سوشيال ميديا» أداة تمكين وتعليم وترفيه وتواصل، لكنها أيضاً أشبه بالمواد المخدرة التي يعاقرها أشخاص، فتفسد حياتهم من دونها، أو بالقليل منها.

وغني عن القول أن الإمارات والكويت والسعودية رسخت مكانتها في المراكز المتقدمة لأكثر شعوب الأرض سعادة.