طرح المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2018 تساؤلات كثيرة عن مهدّدات مستقبل ما يسميه "النظام الليبرالي العالمي" بعد مرور 70 عاما من انتعاشه وانتشاره. وقد حاولت تلك التساؤلات إثارة الخوف على مستقبل الديمقراطية الليبرالية، ونظام الأسواق المفتوحة، والاتفاقيات الأمنية المشتركة. وكانت بعض الاستجابات المتناغمة (والمعارضة أحيانا) مع هذا الطرح تضع الشعبوية "اليسارية" التي بدأت تتّضح حضورًا في الولايات المتحدة وأوروبا وحتى في آسيا وبعض جهات أفريقيا على منصّة التهديد. بل ظهر هناك أيضا من يصوّر هذا التيار السياسي والفكري بأنه الحل أمام تغوّل "اليمين" ومن يدور في دوائره باسم الوطنية أو اسم الدين وقيم الأسرة. ويستشهدون (آنذاك) بما أحدثه رؤساء شعبويّون مثل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، والرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان. ومع هذه الأطروحات وكثرة المراوغات السياسية فما برح كثير من هؤلاء المحللين يرصدون الواقع السياسي والفكري بكثير من التشويش لصعوبة الاطمئنان إلى معايير ما يمكن اعتباره شعبويًا مهددا وما لا يعتبر كذلك.

وقبل سنوات (2016) نشرت صحيفة "الغارديان" البريطانية (وهي الأقرب لليسار) تقريرًا لأحد أبرز محرّريها (John Harris) أطلق فيه إنذارًا واضحًا مفاده أن اليسار في كل أنحاء الغرب، يعيش أزمة كبرى كونه غير قادر على إيجاد إجابات لثلاث مشكلات عالمية ملحّة: 1) القوّة التخريبية للعولمة، 2) وصعود القومية الشعبوية، 3) وانحدار مهن وأساليب العمل التقليدي.

وحيث راهن اليسار العالمي تقليديًا على قضايا مثل السلام والعدالة الاجتماعية، والمساواة الاقتصادية، والاستدامة البيئية إلا أن الخيبات والتحديات التي واجهت الأحزاب اليسارية (التقدمية) التي مُنحت فُرصا للحكم لم تحقق نجاحات مهمة في هذه المجالات. والمشهد كان واضحًا منذ عام 2015 في دول ارتفع وتحكّم اليسار في بعضها ثم خسر مواقعه مثل النمسا وفرنسا وجمهورية التشيك. وليس الحال بأفضل في إيطاليا والبرتغال واليونان والسويد وسلوفاكيا ومالطا التي مازال اليسار يحظى بصدى واسع في الشارع المشوش.

وفي أعلى قائمة الفوضى بين الليبرالية واليسار "التقدمي" نجد الحزب الديمقراطي الأميركي الذي ظهر في العقود الأخيرة بما يشبه الخلطة الإيدلوجية المتجهة بشكل واضح نحو اليسار مدعومًا بالإمكانات الاتصالية والمالية الضخمة لتجار التقنية "التقدميين". ويرصد المراقبون هنا ما حدث للديمقراطيين خلال ربع قرن منذ ولاية بيل كلينتون الأولى، حيث انخفضت حصة المعتدلين في الحزب من 48% إلى 35%، في حين تضاعفت حصة الليبراليين (التقدميين) من 25% إلى 51%. وفي مواجهة اليميني المحافظ "ترمب" أظهر عام 2020 ولأول مرة على الإطلاق قوة "اليسار" الديمقراطي حيث شكّل الليبراليون الأغلبية المطلقة في الحزب.

وبوجه عام فإن مستقبل اليسار السياسي في العالم ستحدّده القضايا والشعارات التي يرفعها ومدى قربها من تنفيذها، ولكن الاقتصاد سيبقى الحاكم في نهاية الأمر. أما في مجال الحقوق ودعم الشعوب فلم ينجح اليسار (الغربي) الحديث (حتى الآن) في تقديم نماذج سياسية أو اقتصادية مهمّة يمكن أن تُعطي للحلم اليساري وهجًا جديدًا.

  • قال ومضى:

عبثًا تبحث عن جواب.. فهذا زمان الأسئلة؟