حظي فيلم «زوربا اليوناني»، الذي أنتج وعرض لأول مرة في 14 ديسمبر 1964، بنسبة مشاهدة عالية في أرجاء المعمورة، بدليل أنه حقق أرباحاً وصلت آنذاك إلى 9 ملايين دولار، بينما لم يكلف إنتاجه سوى أقل من 800 ألف دولار. ولا يزال هذا الفيلم الدرامي الكوميدي الموسيقي، محفوراً في ذاكرة أجيال من البشر، بل تعتبره اليونان مفخرة من مفاخرها الثقافية، وعنواناً لحضارتها العريقة.

فما سر خلود هذا الفيلم؟ هل هو شهرة الروائي «نيكوس كزنتزاكيس» (1883 ــ 1957)، الذي اقتبست قصة الفيلم من أحد أعماله الأدبية الشامخة، والذي قال عنه الأديب الفرنسي ألبير كامو، بعد أن نال هو جائزة نوبل لعام 1956، وخسرها كزنتزاكيس بفارق صوت واحد: «يستحق كزنتزاكيس الجائزة أكثر مني بمئة مرة»؟ أم أنه وقوف هوليوود بإمكاناتها العظيمة خلف إنتاجه؟ أو أن السبب هو الأداء الرائع لبطل العمل النجم القدير «أنتوني كوين» في دور زوربا؟ أو تراه براعة المغنية اليونانية العالمية «إيرين باباس» (1929 ــ 2022)، في تجسيد دور الأرملة التي يطاردها القرويون لرجمها، لاعتقادهم أنها ارتكبت خطيئة يجب أن تعاقب عليها؟ أم أن الأمر عائد إلى حصد الفيلم لثلاث من جوائز الأوسكار (جائزة أحسن ممثلة مساعدة، وجائزة أفضل تصوير سينمائي أبيض وأسود، وجائزة أفضل إخراج فني)؟ أم أن سبب خلوده، هو الأخراج المتقن للمخرج القبرصي اليوناني مايكل كاكويانيس (1922 ــ 2011)؟، أم أن السبب هو تضمين الفيلم رقصة السرتاكي الفلكلورية اليونانية، بمصاحبة موسيقى زوربا، التي أبدعها الموسيقار اليوناني العالمي الأشهر «ميكيس ثيوذوراكيس» (1925 ــ 2021)؟.

أم تراها قصة الفيلم؟ التي تدور حول الشاب الخجول باسل (يؤدي دوره الممثل البريطاني آلان باتس)، المثقف والمغرم بقراءة الكتب، والذي يعتقد أن معارفه الواسعة تمكنه من مواجهة الحياة والعالم بنجاح، حيث يلتقي باسل في ميناء بيريه في أثينا، ببطل الفيلم زوربا، الفلاح السيتيني المستفز والجاهل، الذي يملك قلب شاب جامح وجريء، مستعد للمغامرات، ولديه الكثير من خبرات الحياة. يريد باسل أن يذهب إلى جزيرة كريت، حيث ترك له والده أراضي بها منجم، كي يبدأ مشروعه التجاري الخاص. يرتبط الرجلان بعلاقة وطيدة، بسبب انبهار باسل بشخصية زوربا، ويرحلان معاً كشريكين إلى كريت، حيث تصادفهما مفارقات وحوادث كثيرة، لكن باسل لا يستفيد من زوربا في مجال العمل، وإنما يستفيد منه في تجارب الحياة.

الجواب أن كل العوامل السابقة تضافرت مع بعضها البعض، لتقديم فيلم وصفته صحيفة «لوس آنجلس تايمز»، بأنه جهد غير عادي، ومثير للاهتمام، ويشتمل على مشاهد «مضحكة للغاية، وأخرى حزينة ومأساوية ومؤلمة، ويستحق أن يصنف ضمن أفضل أعمال السنة».

أما الكاتبة دعاء مأمون، فقد اختصرت رؤيتها حول الفيلم في مقال نشرته صحيفة صوت العرب الأردنية (26/ 5/ 2022)، بما مفاده أن عظمة «زوربا اليوناني»، تكمن في أنه عمل ثقافي فكري، يجمع بين مفاهيم الحكمة والفلسفة، وما يتعلمه المرء من مدرسة الحياة الواسعة من مثل وقيم إنسانية، ويعلمنا دروساً في الحرية والدفاع عن المرأة وحقوقها، سواء أكانت أرملة أو صبية أو عجوزاً مسنة، ويدعونا للانتصار للحرية والوطن، والدفاع عن كرامة الإنسان، ذكراً أم أنثى.

وأضافت الكاتبة ما معناه أن زوربا كان رجلاً محباً وقلباً مفعماً بالحياة، وإنساناً بسيطاً وحراً، وكان يعبر عن فرحه بالرقص، حينما لا تسمح له الكلمات بالتعبير، وأصبحت موسيقاه والرقصة التي أداها، وعرفت في ما بعد برقصة زوربا، يرقصها الشباب في الشوارع والمقاهي، معلنة أن الموسيقى والرقص، هما أدوات للتعبير، عندما تعجز الكلمات عن الوصف.

وفي السياق نفسه، كتب أحمد الصراف في القبس الكويتية (5/6/2024)، بمناسبة مرور 60 عاماً على إنتاج الفيلم: «لم يكن فيلم زوربا عادياً، بل قضية ثقافية وفكرية، اختصرت حقبة مهمة من تاريخ اليونان، واحتوى على فلسفة حياة، وحب وكره وعنف، وقيم إنسانية، وأخرى اجتماعية، ودروس رائعة في حقوق المرأة، بكل تجلياتها، عبر القرون، وكشف معنى الحرية والدفاع عن الكرامة، ورسّخ حقيقة أن الموسيقى والرقص، هما من أجمل أدوات التعبير، عندما تعجز الكلمات عن القيام بتلك المهمة».