حقق اليمين المتطرف مزيداً من المكاسب في البرلمان الأوروبي في الانتخابات التي أجريت بين 6 حزيران (يونيو) و9 منه. لكن ما حدث في فرنسا كان بمثابة زالزال سياسي بكل ما للكلمة من معنى. لقد أحرز التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبن ضعفي ما أحرزه "حزب النهضة" بزعامة الرئيس إيمانويل ماكرون (31.5 في المئة في مقابل 15.2 في المئة). وإذا ما أضيفت إلى ذلك النسبة التي حصل عليها الزعيم اليميني الأكثر تطرفاً أريك زامور يكون التيار اليميني المتشدد في فرنسا قد حصل على نحو 40 في المئة من الأصوات. تطور قاد ماكرون إلى الإعلان عن حل الجمعية الوطنية وتحديد 30 من حزيران و7 تموز (يوليو) موعدين لإجراء انتخابات مبكرة. ولقي القرار ترحيب لوبن التي أعلنت أن حزبها مستعد لتولي السلطة، ورشحت جوردان بارديلا (28 سنة) الذي ترأس لائحة التجمع في الانتخابات الأوروبية لرئاسة الوزراء.

يعد ما أقدم عليه ماكرون مخاطرة كبرى، ستترتب عليها نتائج لا يمكن التنبؤ بها، بالنسبة إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي، إذا حصل التجمع الوطني على الغالبية في الانتخابات البرلمانية.

وما يراهن عليه ماكرون من حشد ما يكفي من تعبئة قوية ضد اليمين المتطرف، أمر من غير المؤكد تحققه في ظل النتائج التي دلت إليها الانتخابات الأوروبية. لقد جعلت النتائج الرئيس الفرنسي يبدو ضعيفاً أمام انزياح فرنسا نحو اليمين المتطرف. لكنه قبل التحدي، وأمامه ثلاثة أسابيع كي يثبت أن لفرنسا وجهاً آخر، غير ذاك الذي تقدمه لوبن، وأنها بلد وفيٌ لأوروبيته ولن يتنصل منها في زمن تقرع فيه الحرب الروسية-الأوكرانية أبواب القارة ويستشري التضخم، ويقترع الفرنسيون استناداً إلى ما يملكونه في جيوبهم وليس استناداً إلى تزويد أوكرانيا بمقاتلات الميراج عندما عزت عنها أميركا مقاتلات "الإف-16".

في أقل من شهر، استقبل ماكرون في باريس رئيسي أقوى دولتين اقتصاديتين في العالم، الأميركي جو بايدن ومن قبله الصيني شي جينبينغ، وقام بزيارة دولة لبلد الاقتصاد الثالث، ألمانيا، للمرة الأولى منذ زارها الرئيس الراحل فرنسوا ميتران في 1989 بينما كان جدار برلين يتداعى. كل هذه الكثافة الدبلوماسية لم تترجم ارتفاعاً في شعبية حزب ماكرون.

لا تقل التداعيات الأوروبية اليوم عن تلك التي شهدتها القارة التي ما فتئ ماكرون يحذر من "موتها" إذا لم تتحول، وتحدث نهضة تلحق بركب أميركا والصين اقتصادياً وتكنولوجياً.

هل يكرر ماكرون سابقة شارل ديغول الذي وضع نتائج الاستفتاء على مشروعه للامركزية معياراً لبقائه في السلطة أو الاستقالة عام 1969، وعندما لم يرض عن النسبة التي حققها الاستفتاء، جمع أوراقه وغادر الإليزيه.

ماذا لو لم تأتِ نتائج الانتخابات البرلمانية على قدر توقعات ماكرون؟ هل يقبل التعايش مع رئيس للوزراء من أقصى اليمين، أم يمضي على نهج ديغول؟ إنه تحدٍ كبير يواجه فرنسا وأوروبا. أول تعليق للوبن على نتائج الانتخابات الأوروبية كان أن "الدول قد عادت"، غامزة من قناة تنازل الدول الوطنية في العقود الأخيرة عن سيادتها لمصلحة المشروع الأوروبي الذي خطه الفرنسي جاك ديلور والألماني كونراد أيناور.

إن الانقلاب الهادئ الذي تشهده أوروبا نحو أقصى اليمين، يشق طريقه في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، الدول الثلاث الرئيسية في الاتحاد الأوروبي. وهذا على علاقة بإحباط المواطنين من سياسات حكومات يمين الوسط ويسار الوسط، وسط انقسامات سياسية غير مسبوقة في القارة تجد تعبيراتها المتطرفة، في محاولة اغتيال رئيس الوزراء السلوفاكي أندريه فيكو في نيسان (أبريل) الماضي، وفي تعرض رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن نهاية الأسبوع الماضي لاعتداء بينما كانت تلقي كلمة، وفي ألمانيا تتصاعد الاعتداءات التي يتعرض لها مسؤولون في الأحزاب من اليمين واليسار. إن أوروبا اليوم هي القارة الأكثر قلقاً في العالم.