ذهب إلى واشنطن تداعب خياله أفكار توسعية، يريد التصديق عليها. جلس إلى سيد البيت الأبيض متوجساً من شبح لقاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي. حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إقناع نفسه بأنه ضيف مختلف، يحظى بدعم كبير من حليفته الولايات المتحدة الأميركية، لكن توقعات نتنياهو خابت، لم تأتِ رياح البيت الأبيض بما تشتهيه تل أبيب، امتعض وصارع الصبر والصمت، بينما باغته الرئيس دونالد ترمب بما لم يتوقعه، فقد تم إلغاء المؤتمر الصحافي بينهما أولاً، ثم إلغاء الاجتماع الموسع بين وزيري الدفاع الأميركي والإسرائيلي في البنتاغون ثانياً، كان ذلك مفاجأة كاملة، تلاها الرئيس ترمب بمفاجأة أقوى حين عقد مؤتمراً صحافياً يتكلم هو فيه بحضور نتنياهو، الذي لم يتحدث، ولم يتلق أسئلة سوى سؤال عابر في نهاية اللقاء عن سيناريو اليوم التالي في غزة.
توالت مفاجآت ترمب حين تحدث عن ضرورة إيقاف العمليات قائلاً: الحرب ستتوقف قريباً في غزة، وهذا التصريح لا يعكس رغبات نتنياهو، وأهداف زيارته إلى واشنطن، حاصرته الحيرة، وضاعفتها تصريحات ترمب حول إيران، حين قال: «هناك مفاوضات تجري مع إيران، غير مباشرة ستتحول إلى مفاوضات مباشرة».
زاغت نظرات نتنياهو، وهو الآتي إلى واشنطن من أجل الحصول على التصديق لتوسيع الحرب في منطقة الشرق الأوسط، هذه الأفكار والأحلام الوهمية، اصطدمت بعدم إدراك نتنياهو أن نهاية الشرق الأوسط قد تكون نهاية العالم، كما قال الفيلسوف الأميركي ويل ديورانت، صاحب قصة الحضارة.
اختلطت أوراق نتنياهو، سيطر عليه الحذر، لم تفارق خياله صورة زيلينسكي في عيون الرأي العام العالمي، أطبق عليه صمت جديد، حينما عاجله ترمب بالمفاجأة التركية، مشدداً عليه «بضرورة معالجة الخلافات مع إردوغان بعقلانية»، لا سيما أن علاقة قوية تجمع الأخير بترمب. بدأت أوراق الأحلام تتمزق رويداً رويداً.
كان نتنياهو قد قرر الاحتكاك العنيف بتركيا على الأراضي السورية، وبالفعل قصف مطار حماة العسكري، ومركز البحوث العلمية بالعاصمة السورية دمشق، وبعض أطراف حمص في يوم واحد، بغارات وصلت إلى 21 غارة، غير الهجوم المباغت لقواته البرية على أطراف السويداء، وبالطبع كانت هذه الرسالة العنيفة من نتنياهو، تستهدف النفوذ التركي في سوريا، وهو أمر لم يعجب ترمب، الذي يريد إطفاء الحروب العسكرية والشروع في الحروب التجارية الاقتصادية التي يبرع فيها.
هذه الرؤية الترمبية، لم تأتِ على هوى نتنياهو، الساعي إلى توسيع الحرب في الشرق الأوسط بمساعدة الولايات المتحدة ذات القوة الفائضة، بهدف قيادة إسرائيل للشرق الأوسط، وفرض الخريطة التوراتية من النيل إلى الفرات، كما يتوهم نتنياهو، لكن ترمب يفكر في طريق آخر، وهو أن تكون أميركا قوة اقتصادية عظمى، وقوة جغرافية متسعة، تطمح إلى ضم جزيرة غرينلاند، ودولة كندا في مرحلة أولى، ويشارك روسيا في أوكرانيا، باتفاق حول المعادن، كما يشاركها أيضاً في القطب الشمالي، فضلاً عن أن ترمب يداعبه دائماً حلم الحصول على جائزة «نوبل» للسلام، مثل الذين سبقوه من قادة العالم.
لذا كان جاداً أثناء المؤتمر الصحافي الذي تكلم فيه منفرداً، عندما قال: «لا بد من إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا»، وهنا أتوقف أمام قراءة سريعة لمضمون رسائل ترمب، لأجد أنها تعكس موقفاً مغايراً عما كان يجيش في صدر وعقل نتنياهو، الذي لاحقته ضربات الصدمة والمفاجأة، فبات الصمت حليفه، وراحت الأفكار تجري مثل القطار داخل عقله، ويقال إن الرئيس ترمب في مباحثاته المغلقة مع نتنياهو طالبه بضرورة وقف الحرب، والإفراج عن الرهائن، والتعامل بجدية مع محاكماته داخل وخارج إسرائيل.
إذن، الرسائل التي عاد بها نتنياهو من البيت الأبيض، تقول إن ثمة متغيرات مقبلة ستقطع الطريق على تاجر الحروب المتجول، ولن يجد مشترياً لبضائعه التي قطعاً ستكون بائرة في عصر مختلف، سماته التجارة في البضائع الحقيقية والاقتصاد، والصراع على من يمتلك الإنتاج الوفير من السلع.
حرب تجارية لها ملامحها المختلفة عن الحروب التي دارت في الشرق الأوسط أو العالم، يديرها ساكن البيت الأبيض من دون السماح لأحد أن يعرقل مشروعه الاستراتيجي لجعل أميركا عظيمة مهما تكن العلاقات التقليدية التي نتجت عن الحرب العالمية الثانية.
فنحن الآن إزاء خطاب عالمي جديد مكتوب على أوراق مختلفة لا تنتمي إلى مفاهيم آتية من ماضٍ سحيق، ولا من أحلام أسطورية، لذا ألمح أن نتنياهو بات يقيم وسط ضباب سياسي واستراتيجي، لا يبدأ من فشل مشروعه التوسعي، ولا ينتهي عند التمرد الاجتماعي والعسكري والأمني في الداخل الإسرائيلي، ولا عند تخوم حلفائه الذين سيأتون في لحظة يفضلون فيها مصالحهم الذاتية الكبرى على ميراث قديم لم يعد صالحاً بوصفه تجارة سياسية.
ولعلني ألمح ذلك أيضاً في موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو حليف تقليدي وتاريخي لإسرائيل، وهو يقول: سأعترف بدولة فلسطين في يونيو (حزيران) المقبل.
إن الإشارات من واشنطن إلى باريس إلى الشرق الأوسط، تصل إلى مكتب بنيامين نتنياهو بأختام تطبع مشاهد النهاية لتاجر الحروب المتجول.
التعليقات