جرت ما بين يومي 6 و9 يونيو الجاري انتخابات البرلمان الأوروبي التي تُعقد كل 5 سنوات. ورغم الضعف النسبي لسلطات هذا البرلمان، كمؤسسة من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، فإن موافقته ضرورية على انتخاب رئيس المفوضية الأوروبية، وهي ليست بالصلاحية قليلة الأهمية، فضلًا عن دلالة نتائج الانتخابات على المزاج السياسي العام.
وقد جرت الانتخابات في ظل وضع اقتصادي قاتم لعب فيه انصياع السياسات الأوروبية عموماً للسياسة الأميركية تجاه الحرب في أوكرانيا دوراً مهماً، ناهيك بأن الأجواء دخلت في مرحلة ازدياد التلميح إلى احتمالات المواجهة النووية. ورغم تكرار الحديث عن مخاطر صعود اليمين الأوروبي الراديكالي في السنوات السابقة فقد وُصفت نتائج الانتخابات بالزلزال السياسي، نظراً لما حققته الأحزاب اليمينية من مكاسب جعلتها القوةَ الثانية في البرلمان، فضلاً عن دلالات نتائجها بالنسبة لدول أوروبية مهمة مثل فرنسا وألمانيا.
وإذا بدأنا بهذه الدلالات، فلعل فرنسا تكون المثال الأوضح، إذ حصدت زعيمة «حزب التجمع الوطني» ومرشحته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ماري لوبان، على 41.5٪؜من الأصوات، مقابل 58.5٪؜ لماكرون، وهو ما أشار إلى استمرار صعود الحزب مقارنةً بنتائج انتخابات عام 2017 التي تواجه فيها المرشحان، وحصلت فيها لوبان على 33.9٪؜ من الأصوات مقابل 66.1٪؜ لماكرون، أي أن الأخير تراجع بنحو 7 نقاط مقابل تقدم لوبان بنحو 8 نقاط. ثم جاءت نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأسبوع الماضي لتؤكد هذا الاتجاه الصاعد بشدة، حيث حصل «التجمع الوطني» على 31.5٪؜ من الأصوات، مقابل 15.2٪؜ لحزب ماكرون، أي بفارق يَفوق الضعف. وقد أثَّرت هذه النتيجة بشكل حاد على المسرح السياسي الفرنسي، ودفعت ماكرون إلى حل الجمعية الوطنية والدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة في 30 من الشهر الجاري، وهي خطوة تهلل لها اليمين المتشدد فيما اعتبرتها التيارات الأخرى «قفزةً في الهواء»، وفق تعبير الدكتورة نيفين مسعد في مقالها القيّم المنشور يوم السبت الماضي في صحيفة «الأهرام» تحت عنوان «تحديات القوس الجمهوري في فرنسا»، والذي ذكَّرت فيه بسابقة حل شيراك للجمعية الوطنية في عام 1997 للتخلص من اليسار، فإذا به يأتي على رأس الحكومة. ولعل ماكرون يراهن على استمرار تخوّف الرأي العام من توجهات اليمين المتشدد، وهو رهان غير مضمون على ضوء نتائجه في الانتخابات الأخيرة. ولنتصور ما الذي يمكن أن يحدث حال نجح اليمين المتشدد في تشكيل ائتلاف حكومي، وما التداعيات الأوروبية لذلك، سواء فيما يخص وزن فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، أو لجهة تأثيراته على دول أوروبية أخرى وفقاً لنموذج الدومينو، خاصة أن فرنسا لا تنفرد بظاهرة صعود اليمين المتشدد.
أما على الصعيد الكلي فالمتوقع ألا يكون لنتائج الانتخابات تأثير على المدى القصير فيما يتعلق بالتجديد لرئيسة المفوضية الأوروبية التي تحتاج موافقة البرلمان لإتمام التجديد، وذلك نظراً لأن المعسكر المضاد لليمين الراديكالي مازال يحتفظ بالأغلبية داخل البرلمان وإن قلّت (398 مقعداً من 720)، رغم أنه كان يجب أن لا ننسى أن الرئيسة الحالية فازت في 2019 بفارق 9 أصوات فحسب، أما بعد ذلك فإن الفرضية الشائعة هي أن استمرار صعود اليمين المتشدد يهدد بقاء الاتحاد الأوروبي أو على الأقل تماسكه، نظراً لتوجهاته المضادة للوحدة الأوروبية، وهو تحليل منطقي، غير أنني أطرح بالمقابل فكرة مختلفة مفادها أن استمرار صعود اليمين المتشدد وصولاً لحصوله على الأغلبية يمكن أن يحافظ على الاتحاد ويقويه، بعد أن يجعل منه آلية مهمة لتنفيذ توجهاته وتعزيزها، وهو ما يحتاج نقاشاً معمقاً.