حاول تقرير البنك الدولي عن آفاق الاقتصاد العالمي، الصادر منذ عدة أيام، أن يعزف نغمة أكثر تفاؤلاً عن أوضاع النمو، بأنه قد استقرَّ بعد تراجع على مدار ثلاث سنوات متعاقبة، بما يجعل العالم يقترب من الهبوط الناعم. ولكن سرعان ما تتبدَّد النغمة المتفائلة بضربات إيقاع عنيفة، مذكرةً بأن التعافي الموعود قد ضلَّ العالم سبله إليه؛ حتى حين. فالنمو الاقتصادي بمتوسطات متوقعة لا تتجاوز 2.7 في المائة حتى عام 2027 لا يكفي لتحقيق أهداف التنمية. وقد كانت هذه الأهداف عصية على التحقق عند أرقام نمو أعلى بلغت 3.1 في المائة قبل الجائحة، ولكنها ظلّت أيضاً غير كافية لتحقيق أهداف التنمية التي تتطلَّب نمواً أكبر وأكثر شمولاً وأطول استمراراً.

ومع نهاية عام 2024 سيكون 25 في المائة من البلدان النامية أكثر فقراً مما كانت قبل الجائحة. كما أن نصف هذه البلدان ستتسع الهوة فيها بين متوسطات دخولها ومتوسطات دخول البلدان الأكثر تقدماً، وذلك في تراجع غير مشهود منذ تسعينات القرن الماضي.

ومع وصول التعاون الاقتصادي الدولي إلى حال بائسة تتراجع فرص النمو وتحقيق التنمية. فمع زيادة قيود التجارة الدولية ثلاث مرات، مقارنة بما كانت عليه قبل الجائحة حتى وصلت إلى 3 آلاف قيد، وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلدان النامية بنحو 9 في المائة، وتحول التدفقات المالية إلى هذه البلدان إلى أرقام سالبة بسبب مستحقات الديون؛ يشهد العالم تفتيتاً اقتصادياً لا شأن له بالطنطنة عن مآثر التعاون، ويزيد أهداف التنمية بعداً عن مسارات تحقيقها.

ثم تتوالى التحديات العالمية الأخرى بأصواتها الهادرة، فالبلدان النامية تواجه ضغوطاً متضاعفة على أسباب الحياة والمعيشة بسبب تغيرات المناخ، كما يفتقر بعضها إلى مقومات التحول الرقمي والاستعداد للاستفادة من الذكاء الاصطناعي. والأخطر من هذا أن كثيراً منها يصارع أزمة مديونية نعلم من المقال السابق أنها، بتراجع النمو الاقتصادي وارتفاع أسعار الفائدة، تفتئت على مخصصات الصحة والتعليم والخدمات الأساسية. واستعانة بتقرير «الأونكتاد» الأخير عن الديون، فهناك 12 دولة نامية تنفق على تكلفة الفوائد أكثر مما تنفق على تعليم أجيالها، و34 دولة تزيد تكلفة الفوائد فيها عما تنفقه على الرعاية الصحية. ونعلم أنه لا تتحقق التنمية بهدر الاستثمار في رأس المال البشري على هذا النحو. فالمشكلة ليست لماضٍ للأداء التنموي كان يُرجى تحسّنه، أو حاضر اعترضته مربكات يُؤمل زوالها؛ ولكنه لمستقبل جدير بأجياله أن يعيشوا فيه بفرص عادلة ومتكافئة مع أقرانهم حول العالم.

ولفهم ما يجري نستدعي مفهوماً يعرفه الاقتصاديون بـ«أثر الخطر المعنوي»، وهو تغيّر في السلوك وفقاً لحوافز وضوابط معينة. كأن يسرع قائد سيارة في سرعته إذا ما اطمأن أن التأمين عليها سيتكفّل بتعويض أي حادث. وسأشرح كيف ينطبق هذا الاعتبار في حالة مديونية اليوم مقارنة بمديونية الأمس. فعلى الرغم من ويلات المديونية الدولية في السابق فإن سبيل علاجها كان معروفاً. ففي عام 2000 كانت مسؤولية دائني نادي باريس من الجهات الرسمية تقترب من 40 في المائة، والمؤسسات المالية الدولية كانت تستحوذ على 44 في المائة، بما كان ييسّر من وضع علاج للمديونية بإعادة الهيكلة أو إعادة الجدولة أو الترتيب لتخفيض أو لإعفاء جزئي، أو كلي لبعض المديونيات وخدماتها. وسارت مبادرات سأستعرضها تباعاً لإدارة الديون وإعادة جدولتها وإعفاءات منها.

أما اليوم فنسبة دائني نادي باريس الرسميين تقلُّ عن ربع ما كانت عليه في بداية هذا القرن، وإنْ حافظت المؤسسات المالية الدولية على نسبتها عند نحو 45 في المائة، ولكن ازداد دور القطاع الخاص إلى 25 في المائة، بعدما كان لا يتجاوز 9 في المائة، مع بروز دور كبير لمقرضين ثنائيين من الأسواق الناشئة. وبهذا الهيكل الجديد للمديونية الدولية لا توجد آلية فاعلة لتسوية مديونيات الدول المتعثرة. فالطريق طويلة وعثرة بلا نهاية معلومة، وقد تقوّض فرص الحصول على ديون جديدة من الأسواق، خصوصاً إذا خفّضت مؤسسات التصنيف الائتماني تصنيف الدولة المعنية. فتجد الدول الواقعة تحت ضغوط المديونية والموشكة على التعثر في السداد، وقد نأت بنفسها عن سلوك طريق إعادة الجدولة، وتحاول أن تستنقذ وضعها بالتضحية، ولو بالإنفاق على استثمار بشري أو تنموي حتى لا يمنع عنها اقتراضاً جديداً.

قد ينشغل البعض بمسكنات تحسّن بيئة الاقتراض؛ كأن تنخفض أسعار الفائدة، ليسعوا لمزيد من الاقتراض. ولكنني أدعو إلى ما هو أهم، وهو ما يتجاوز مجرد إدارة السيولة والأصول والديون، بوصفها شروطاً ضرورية سأستعرضها، إلى أهمية مراجعة نهج تمويل النمو والتنمية بالاعتماد على المدخرات والموارد المحلية، ثم الاستثمارات الأجنبية طويلة الأجل، مع سيطرة صارمة في الاعتماد على الاقتراض الخارجي، ولو كان ميسراً، إلا لضرورة ولاعتبارات سأبيِّنها في مقال قادم.