ولد النظام العربي الرسمي، بتأسيس جامعة الدول العربية، والتوقيع على ميثاقها في 22 آذار/ مارس عام 1945، مع خواتيم الحرب العالمية الثانية. وكانت فكرة التأسيس قد بدأت قبل نحو عام من هذا التاريخ، حين دعا رئيس الحكومة المصرية، وزعيم حزب الوفد آنذاك، مصطفى النحاس، كلاً من رئيس الوزراء السوري، جميل مردم، ورئيس الكتلة الوطنية اللبنانية، بشارة الخوري، للتباحث معهما حول فكرة التأسيس لجامعة عربية، تشمل الدول المستقلة في حينه.

وقد أدت سلسلة المشاورات والمناقشات، بين رئيس الحكومة المصرية، وممثلين عن السعودية والعراق وسوريا ولبنان والأردن واليمن، من أجل تحقيق الوحدة العربية بما لا يمس استقلالها، إلى ترجيح فكرة التأسيس للجامعة العربية. وتم التوصل إلى ما عرف ببروتوكول الإسكندرية، الذي اعتبر أول وثيقة تصدر عن الدول المشاركة بالمؤتمر التأسيسي، في 7 تشرين/ أكتوبر 1944. وأقر ميثاق الجامعة، في 19 آذار/ مارس 1945.

ومنذ ذلك التاريخ، سالت مياه كثيرة، واكتظت رفوف مبنى جامعة الدول العربية، بعشرات الاتفاقيات والمواثيق، على رأسها معاهدة الدفاع العربي المشترك، كما تناولت شؤون الثقافة والتعليم والصحة والبيئة، وأمور كثيرة أخرى، وعقدت مؤتمرات قمة كثيرة.

لكن شعوراً ساد لدى النخب العربية، طوال مسيرة الجامعة، بأن هناك فرقاً شاسعاً بين تلك الاتفاقيات وتطبيقاتها، وتسلل اعتقاد عام لدى الجمهور العربي، بأن ما يكتظ به أرشيف جامعة الدول العربية، لا يتعدى كونه حبراً على ورق.

والواقع أن هذا التقييم ليس دقيقاً، فقد لعبت جامعة الدول العربية، أثناء حقبة النهوض القومي، دوراً مسانداً لحركات التحرر الوطني بالبلدان التي وقعت فريسة للاستعمار التقليدي. كان دورها جلياً في تأييد ثورة الجزائر، ومناهضة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واعتبار القضية الفلسطينية، قضية العرب المركزية. وحين تم توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، نقلت الجامعة مقرها من القاهرة، إلى تونس، اتساقاً مع الموقف العربي الرسمي، في تلك المرحلة.

وفي سياق دور جامعة الدول العربية، في نصرة القضايا القومية، ينبغي التنبّه، إلى أن موقف الجامعة، ليس معزولاً عن مواقف الأقطار العربية المنضوية تحت مظلتها، بل تعبير عنها. وكان عدد الأقطار عند التأسيس محدوداً شمل سبعة أقطار فقط، هي الأقطار التي انتزعت استقلالها السياسي. ومع حصول بلدان عربية أخرى، على الاستقلال، كتونس والجزائر والمغرب، والسودان واليمن الجنوبي والصومال، وأخيراً، بلدان الخليج العربية، تضاعف عدد أعضاء الدول العربية المنضوية بالجامعة، إلى ضعفي العدد الذي كان أثناء مرحلة التأسيس.

وكان للجامعة العربية دور كبير، في حماية لبنان والكويت، والتأكيد على عروبة الخليج، وتسوية الخلافات البينية، بين الحكومات العربية. ولكن النجاح والفشل في مسيرتها، ظل محكوماً بمواقف الدول العربية، كون الجامعة كمؤسسة، لا تملك سوى القوة الاعتبارية، التي يمنحها لها النظام العربي. ولذلك تقوى مؤسسات الجامعة بالتوافق العربي، وشيوع روح التضامن بين القادة العرب، وتفشل حين تسود حالة الشقاق والصراع بين الأنظمة العربية.

في هذه المرحلة، تواجه الأمة العربية، تحديات مصيرية كبرى، تهدد وجودها ومستقبلها، لعل الأبرز بينها، حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على غزة، والتي ذهب ضحيتها أكثر من سبع وثلاثين ألف شهيد، معظمهم من المدنيين، ونسبة كبيرة منهم من الشيوخ والنساء والأطفال. وقرابة تسعين ألف جريح، ولا يبدو حتى هذه اللحظة أي أفق لإنهاء هذه الحرب.

وبالمثل، هناك حرب عبثية، في السودان، بين الجيش السوداني وقوات التدخل السريع، مضى عليها أكثر من عام، حيث اندلعت في الخامس عشر من نيسان/ إبريل عام 2023، بما يعني مرور أكثر من سنة وثلاثة أشهر على اشتعالها. وكما أن معظم ضحايا الحرب على غزة، هم من المدنيين العزل، فكذلك الحال في السودان، يدفع الشعب السوداني الشقيق، تكاليف حرب لا ناقة له فيها ولا جمل.

وللأسف فإن ما يجري في غزة والسودان ليس نهاية المطاف، فسوريا العزيزة، قلب العروبة النابض، ومركز حركة اليقظة العربية المعاصرة، ورمز العنفوان والنهوض العربي، تعيش في وضع مأساوي، منذ عام 2011، وباتت مختلف القوى الدولية والإقليمية متواجدة على أرضها. والموقف العربي الصحيح، والمطلوب، هو ترك سوريا لأهلها، ليقرروا حاضرها ومستقبلها، بمعزل عن التدخلات الخارجية. ولتعود لواحة الياسمين والجمال، السلام والفرح.

إن معالجة الأوضاع العربية المتردية، ليست من باب النخوة، ونجدة الأشقاء فحسب، بل هي ضرورة ملحة، لحماية الأمن القومي العربي، ودرء للأخطار التي تواجهها الأمة بأسرها. فتعطيل قدرات أقطار عربية، بثقلها البشري والتاريخي والاقتصادي، هو إعاقة للنهوض، وتجميد للطاقات، ولن تقتصر تأثيراته على البلدان التي تواجه التحديات بشكل مباشر، بل ستعم تأثيراته المنطقة بأسرها.

وعلى هذا الأساس، فإن مواجهة التحديات التي تمر بها الأمة، ليست فقط موقفاً أخلاقياً مطلوباً، وليست مرتبطة بنخوة عربية تجاه الأشقاء، ولكنها في العمق دفاع مشروع عن النفس والتزام بوعود ومواثيق وقع عليها القادة العرب، منذ عقود، وألزموا أنفسهم بها، وعلى رأسها الالتزام بالأمن القومي العربي الجماعي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك. وما لم يتحقق ذلك، سنكون جميعاً ضحايا الاستسلام للأمر الواقع، وسيصدق علينا المثل القائل أكلت يوم أكل الثور الأبيض.