انتقل التخبط والتشتت والبلبلة وانحسار الثقة بالنفس من معسكر الحزب الديموقراطي إلى معسكر الحزب الجمهوري في غضون عشرة أيام فقط، كان يُفتَرَض أن تكون احتفائية بارتفاع أسهم المرشح الجمهوري الرئيس السابق دونالد ترامب في أعقاب فشل محاولة اغتياله، واختياره نائباً له لاقى الترحيب في مؤتمر الحزب الجمهوري الناجح.

منطقياً، كان يفترض أن يكون الحزب الجمهوري جاهزاً لإمكان موافقة الرئيس الديموقراطي جو بايدن على التنحي عن خوض المعركة الرئاسية الانتخابية، وكان يُفتَرض أن يتوقع الجمهوريون احتضان الحزب الديموقراطي نائبة الرئيس كامالا هاريس لدى تنحي بايدن، أقله لأسباب منطقية ذات علاقة بالتمويل والمال الضروري لهذه المعركة الانتخابية الشرسة. حصل العكس. أوقع الحزب الجمهوري نفسه بين أسلاك الإفراط بالثقة بالنفس وتتويج دونالد ترامب رئيساً، فسادت مشاعر الاطمئنان وبلغ ترامب ورفاقه الذروة قبل الأوان.

اليوم، يهرول فريق رسم الاستراتيجيات في كل من الحملة الانتخابية الديموقراطية والجمهورية لإعادة صوغ الأولويات ودراسة التحديات وتجهيز المرشحين للمناظرات. فأهلاً وسهلاً إلى هستيريا فيلم أميركي طويل قد يكون مسلّياً، لكنه أيضاً ينذر بأن يكون مرعباً لأن أجواء الانقسام والانتقام لا يُستهان بها في زمن الاندفاع العقائدي والعاطفي في دولة مثل الولايات المتحدة الأميركية.

فأين نحن حالياً في المشهد الانتخابي المدهش بمفاجآته وأمامنا أكثر من ثلاثة أشهر من حملات ومحطات وزلقات؟

بين ليلة وضحاها وبسرعة البرق تحوّلت شخصية كامالا هاريس من الظل إلى الأنوار بحلّة جديدة بالشكل والفحوى. استيقظت كامالا هاريس إلى حلم تولّي منصب الرئاسة الأميركية، فاحتضنت المهمّة الجديدة الموكلة إليها بقفزة اتسمت بالجاهزية المسبقة.

بينما كان قادة الحزب الديموقراطي يضغطون على الرئيس الحالي جو بايدن ليكف عن عناده ويرضخ لضرورة التنحي عن خوض السباق الرئاسي، كانت "الماكينة" الانتخابية تدرس أوضاع الحزب وسيناريوهات نهوضه من وعكته لقلب الطاولة على دونالد ترامب وحزبه الجمهوري. بين هؤلاء القادة الرئيس الديموقراطي السابق باراك حسين أوباما الذي ينوي اليوم قيادة معركة كامالا هاريس على دونالد ترامب.

فوجئ الحزب الجمهوري بحجم الدعم المالي الذي تدفّق إلى كامالا هاريس لحظة استنتاج الحزب الديموقراطي أن لا خيار آخر أمامه، منطقياً وعملياً وبراغماتياً، سوى ترشيح كامالا هاريس بديلاً من ترشيح جو بايدن لأن صندوق المال الموجود للحملة الانتخابية يحمل اسمَي بايدن وهاريس.

الحزب الجمهوري يحتجّ على تلقائية وضع الأموال في صندوق حملة هاريس وأوتوماتيكيته لأنها أموال جُمعت لحملة بايدن - هاريس. الحزب الديموقراطي يصرّ على حقّه في أن تكون الأموال في خدمة مرشّحَيه للرئاسة ونائب الرئيس. فسنرى. سنرى إن كانت هناك مفاجأة مالية - قانونية تزعزع الافتراضات وتعيد الاستراتيجيين مجدداً إلى طاولة رسم السياسات.

أثناء الأيام المقبلة - ولعل ذلك يحدث قبل نشر هذه المقالة - ستنصبّ جهود الديموقراطيين، ليس فقط على عملية تجهيز استثنائية لكامالا هاريس لمحو صورة الظل واستبدال صورة الإضاءة الرئاسية بها. بالتوازي يتبادل كبار قادة الحزب والفريق الذي تم تعيينه مرشداً لكامالا هاريس بصفتها المرشحة المفترضة للحزب الديموقراطي، يتبادلون الأفكار حول مَن هو الأفضل لمنصب نائب الرئيس الذي سيزيد من يقظة الديموقراطيين المفاجئة.

الأسماء عديدة، بعضها يُضاف يوماً، وبعضها يزول، وبعضها يختفي ثم يطفو مثل اسم ميشيل أوباما زوجة الرئيس السابق التي عاد يُذكر اسمها كنائبة رئيسة لكامالا هاريس. مثل هذا السيناريو مستبعد، لا سيما أمام سيناريوهات أخرى تشمل مثلاً احتمال ترشيح الطيار الحربي عضو مجلس الشيوخ في ولاية أريزونا، مارك كيلي، الذي شارك في حرب 1991 لتحرير الكويت كطيار في البحرية الأميركية. هناك أيضاً جانب إنساني له قد يستقطب بعض الناخبين، إذ إنه تقاعد لرعاية زوجته بعدما أصيبت برصاصة أثناء محاولة اغتيال في السوبرماركت.

كثيرة هي الأسماء الأخرى مثل حاكم بنسلفانيا، وحاكم كارولينا الشمالية وحاكمة ميشيغان وحاكم إلينوي وحاكم كاليفورنيا ووزير النقل وغيرهم. فمنصب النائب للمرشحة المفترضة للحزب الديموقراطي كامالا هاريس مهم جداً، ليس فقط لكسب الأصوات، بل أيضاً لطمأنة الأميركيين إلى أن امرأة الظل بالأمس سيرافقها وهي تحت الأضواء شريك له خبرة في صنع السياسات وفي تحويل الأضواء لمصلحة مهمّة الحزب الديموقراطي الأساسية وعنوانها الفوز والاحتفاظ بالبيت الأبيض.

حملة دونالد ترامب لن تجعل مشوار كامالا هاريس سهلاً، وهي الآن تضع استراتيجية جديدة وتستعد لمناظرة يريدها كل من دونالد ترامب وكامالا هاريس، بعد ترشيحها رسمياً. المناظرة ستكون بالغة الأهمية لأنها ستمتحن شخصية دونالد ترامب بعد محاولة اغتياله وأمام امرأة أميركية - أفريقية من أصول جنوب آسيوية، وهي ستمتحن أيضاً شخصية امرأة الظل تحت الأضواء للتعرف إلى قدراتها القيادية وإلمامها بالشؤون الدولية.

الخوف على دونالد ترامب هو أن يسقط ضحية ارتجالية دونالد ترامب وعنجهيته. قالها بنفسه مشيراً إلى أن الكثيرين اعتقدوا أنه أصبح رجلاً أقل شراسة وأكثر لطفاً بعد نجاته من محاولة اغتياله، مؤكداً "إنني لن أكون شخصاً لطيفاً معهم". فإذا كان في خزانة دونالد ترامب حقائب من الألفاظ والألقاب والسخرية من جو بايدن لحملة انتخابية كانت مُعدّة ضده، فإنه اليوم يعلّق فساتين ألقاب وهجمات في خزانته الخاصة بكامالا هاريس.

ما يريده فريقه منه هو ألّا ينزلق إلى التهجّم الشخصي أو إلى الإهانة العرقية أو إلى تحقير المرأة، فهكذا سيخسر الأصوات لأن الذين يشرفون على حملة كامالا هاريس يريدون إظهار قدراتها المكتسبة ويريدون أيضاً البناء على ما بات يعتبره جزء كبير من الأميركيين شخصيةً محبوبة، قريبة إلى القلب، قادرة على التأقلم والتغيير المدهش حالما تم تحديد هوية وهدف واضحين لها.

سيتبادلان الإهانات بالطبع، الشخصية منها وتلك المتعلقة بالأداء. ترامب تحدّث عنها بتعابير مثل "معتوهة" و"كاذبة" و"قاتلة الأطفال" إشارة إلى دعمها الإجهاض. كما أن حملته تنوي رسم شخصية لكامالا هاريس بأنها كانت متواطئة في إخفاء حقيقة وضع جو بايدن، مسؤولة عن فتح الحدود، يسارية التوجه أو ليبرالية متطرفة. أما هاريس فتعتزم تحقير ترامب بصفته "مجرماً" و"مداناً" وستراهن على صورة رجل لا يليق به منصب الرئيس الأميركي.

ستكون القضايا المحلية في الصدارة لأن هذا هو ما يهم الناخب الأميركي، لكن ستفرض بعض القضايا الدولية نفسها. رجال المال الكبار سيدخلون في منافسة الملايين كل لمعسكره. وول ستريت سيتخوف من اللااستقرار الذي يرافق شخصية ترامب، من جهة، ومن اليسار الذي سيلاحق هاريس، من جهة أخرى.

حملة ترامب أرادت أن يقدم الرئيس جو بايدن استقالته كرئيس الآن وليس عندما تنتهي ولايته في شهر كانون الثاني (يناير) المقبل. هكذا يتم إثقال كامالا هاريس بمهمتين: الرئاسة بالوكالة، وخوض المعركة الانتخابية. وستفشل، في رأي القائمين على حملة ترامب لأن قدرات هاريس حسبما يرونها "محدودة".

ما تراقبه حملة ترامب هو ما يقوم بإعداده سيد الدمى وراء الكواليس في الحزب الديموقراطي، باراك أوباما برفقة ميشيل أوباما. فهو سيكون رئيس الأمر الواقع من الآن إلى فترة طويلة.

ما ستحاول حملة هاريس تحقيقه هو مضاعفة فريق بايدن جهوده كي يحقق إنجازات كبرى، محلية ودولية، يمكن استخدامها لمصلحة هاريس بصفتها نائبة الرئيس في إدارة بايدن - هاريس. حملة هاريس تريد أيضاً الاستفادة من القطاع في الرأي العام الأميركي الذي يبدو جاهزاً لاحتضان كامالا هاريس لمجرد أنه يكره دونالد ترامب.

وما سيحاوله الرأي العام الأميركي والعالمي هو الاستمتاع بكل جولة من جولات الملاكمة بين ترامب وهاريس، لأن الانتخابات الرئاسية الأميركية مُسلّية ومرعبة للعالم أجمع.