في استعادة لمشهدية شهر نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1956؛ يمكن إدراج الهياج العسكري القائم في الشرق الأوسط في ذات السياق، رغم الاختلاف الكبير بين طبيعة الصراع الذي حصل في ذلك الزمان وبين صراع اليوم، كما بين نوعية الدول المشاركة في الحرب حينها وبين الدول والمنظمات المشاركة في حلقات التوتر في الوقت الراهن.

شنَّت إسرائيل في العام 1956 عدواناً ضد مصر بمساندة بريطانيا وفرنسا، تحت شعار منع الرئيس المصري جمال عبد الناصر من تأميم قناة السويس التي كانت تديرها شركة بريطانية – فرنسية. لكن الهدف الرئيسي غير المُعلن للحرب؛ كان منع مصر من القدرة على إغلاق مضيق تيران في وجه السفن الإسرائيلية، ووقف نشاط المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال انطلاقاً من سيناء وقطاع غزة. وعندما هدَّد الاتحاد السوفييتي بدخول الحرب إلى جانب مصر إذا لم يتوقف العدوان، لجأت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الضغط على حلفائها «الثلاثة» لوقف العمليات العسكرية، لكنها ورثَت منذ ذلك الحين مكانة الدول «الاستعمارية» وشَرَعت في إدارة اللعبة بمفردها، انطلاقاً من خلفية استراتيجية ذات أبعاد دولية كبرى.

وحينما وُجِّهت الانتقادات للرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور على مراعاته للموقف السوفييتي وتشدّدِه ضد عبد الناصر ومحاصرته

مالياً وعسكرياً. قال أيزنهاور:«يجب علينا أن نوقف المشروع العربي، وأن نحوُل دون تمكين العرب وعبد الناصر من توحيد قواهم من خلال وصل المغرب العربي ومن خلفه غالبية إفريقيا، والمشرق العربي ومن خلفه غالبية آسيا الوسطى، لأن ذلك يُهدد كل التوازنات الدولية، نظراً للأهمية الجيوسياسية للمنطقة، ومواجهة المدّ الشيوعي يأتي أولوية ثانية بالنسبة «لحلف بغداد» الذي تأسس برعاية واشنطن في تلك الفترة».

مارست الولايات المتحدة يومها دوراً طليعياً في مواجهة المعسكر الشرقي، وهي حَمت إسرائيل وطورت لها قدراتها العسكرية، بعد أن كانت هذه المهمة منوطة بالثنائي الفرنسي – البريطاني، ولكن واشنطن عملت بكل جدية لكسب حلفاء أو أصدقاء لها في المنطقة العربي في ذات الوقت برغم خيبة أمل هؤلاء من جراء ما حصل عام 1967 وعام 1973. وبقيت واشنطن وسيطاً مقبولاً في العام 1974 وعند توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، وهي مَن أشرف على مفاوضات نهاية عدوان العام 1982على لبنان، وأدخلت منظمة التحرير الفلسطينية في حوار مباشر مع إسرائيل أسفر عن توقيع اتفاقية إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية في أوسلو عام 1993، وكانت واشنطن من أبرز رعاة مؤتمر السلام الذي انعقد بحضور ممثلين عن الدول العربية المعنية بالنزاع وقيادات إسرائيلية بالعاصمة الإسبانية مدريد في العام 1991.

يُظهر شريط الأحداث المتفاقمة في المنطقة خسارة الولايات المتحدة الأمريكية لموقعها كوسيط، أو كمفاوض، وهي اقتربت إلى أن تكون فريقاً خالصاً في الصراع القائم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. والعتب كبير على واشنطن لأنها لم تراعِ مقررات القمة العربية والإسلامية التي انعقدت بالرياض في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 والتي حضرها قادة عن 57 دولة، لأن القمة طالبتها بلعب دور بإنهاء الحرب على قطاع غزة وبحماية الفلسطينيين. والإدارة الأمريكية استخدمت «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي أكثر من مرة لصالح إسرائيل، وهي بدت كأنها رهينة خاضعة للابتزاز من قبل متطرفي اليمين في الحكومة الإسرائيلية، وهؤلاء أجهضوا كل المبادرات التي قام بها الوسطاء - وبموافقة أمريكية - لوقف الحرب.

وانفراط الحياد النسبي الأمريكي يُفاقِم المشكلات أكثر مما يسهم في حلها. وقد استفاد أطراف النزاع على اختلافهم من هذا الموقف الأمريكي لإطالة الحرب، والرأي العام العربي والعالمي – بما في ذلك وسط الجامعات الأمريكية - يُحمِّل واشنطن مسؤولية كبيرة عن الارتكابات الفظيعة التي حصلت ضد المدنيين والأبرياء في فلسطين وفي جنوب لبنان وفي الجولان المُحتل. ومن المؤكد أن الدعم الأمريكي لإسرائيل هو الذي يجعل من هذه الأخيرة قادرة على تنفيذ كل هذه العمليات التدميرية والقتالية، لأن إسرائيل لا تملك قدرة مالية لتغطية تكاليف الحرب بمفردها، وليس لها قدرة على صناعة الأسلحة المتطورة التي تستخدم في العمليات.

تفاجأ المراقبون من ارتفاع منسوب الاستنفار الأمريكي بمناسبة التوتر العسكري القائم حول الحرب على غزة والمتفرعات عنها، والتي طالت اغتيال كوادر مهمة من الفلسطينيين واللبنانيين خارج مسرح عمليات القتال. وقد حشدت واشنطن الأساطيل وحاملات الطائرات تحت شعار «الدفاع عن إسرائيل» كما قال حرفياً الناطق باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي، وهي لم تُحرِّك ساكناً لحماية المدنيين، ولا هي استجابت لنداءات أصدقائها في المنطقة الذين طالبوها بضرورة وقف الحرب الظالمة ضد الفلسطينيين، وهي فوق كل ذلك أعلنت أنها ستزوِّد إسرائيل بالقنابل المتطورة من العيارات الثقيلة القادرة على تهديم الأبنية واختراق التحصينات، برغم أن إدارة الرئيس بايدن كانت قد أوقفت تزويد إسرائيل بمثل هذه القنابل بعد المشاهد التدميرية الصادمة التي بانت في مدن قطاع غزة.

الاختلال في السياسة الأمريكية، وفقدان التوازن في تعاطي واشنطن مع الأحداث في الشرق الأوسط؛ يعطي فرصة كبيرة للمتطرفين، ويقوِّض مجهودات الاعتدال ويضع المستقبل أمام مصيرٍ مجهول ويهدِّد الاستقرار قي المنطقة بشكل واسع.