أحمد نظيف

يبدو أن ضربة البداية لأولمبياد باريس كانت موفقةً، قياساً للاضطرابات التي عاشتها العاصمة الفرنسية ساعات قبل الانطلاق، والتي شلت حركة السفر الحديدي فيها، وقياساً للوضع العام الذي تعيشه البلاد، التي لا تزال تبحث دون جدوى عن حكومة تدير شؤونها. فقد نال العرض الذي أخرجه توماس جولي استحساناً واسع النطاق، ومن المفارقة أنه اختار تسليط الضوء على رموز تتعارض تماماً مع ما يعيشه المجتمع الفرنسي من تحول عظيم نحو اليمين المتطرف: الثقافة الشعبية، والتنوع العرقي والجنسي، والتقاليد الثورية الفرنسية، وخاصة مع ضيوف الرئيس الفرنسي على المنصة، وعلى رأسهم الرئيس الإسرائيلي.

وراء ما عرضته الشاشات أفلتت حركات صغيرة أعادت روح الإيمان بالإنسان إلى المشهد، الذي طغت عليه الكرنفالية المفرطة. حركات أو إيماءات على بساطتها أعادت الذاكرة دفعةً واحدةً إلى الحاضر: لفتة الوفد الجزائري تكريماً لضحايا مجزرة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، أو إطلاق صافرات الاحتجاج القوية أثناء مرور الوفد الإسرائيلي، أو الحضور الملحوظ للوفد الفلسطيني. خلال مرور القارب الذي يقلهم وسط نهر السين ألقى عناصر الوفد الجزائري الزهور وسط الماء. أعادت الحركة البسيطة التي شاهدها مليارات البشر حول العالم إلى الحاضر مئات الضحايا الذين سقطوا قبل ستة عقودٍ برصاص الشرطة الفرنسية، عندما خرج 40 ألف جزائري ومعهم طيف واسع من المغاربة إلى الشارع في تظاهرة سلمية، رُفعت خلالها شعارات الاستقلال والعدالة والمُطالبة برفع حظر التجوال الليلي، الذي فرضته السلطات على الجزائريين. لكن قائد الشرطة موريس بابون، قرر أن يواجه المسيرة بإطلاق النار. وهو الذي شغل سابقاً منصب محافظ شرطة بوردو في عام 1942، وكان متعاوناً سيئ السمعة مع حكومة فيشي الموالية للنازية، حيث قام بترحيل 1500 من يهود بوردو خلال الحرب العالمية الثانية إلى المحتشدات. تضمن التقرير الرسمي في ذلك الوقت وفاة شخصين، بحسب السلطات، بسبب "صراعات بين المغاربة". واليوم، يحصي المؤرخون حوالي 200 جزائري قُتلوا في تلك الليلة. وأمام العدد الكبير من القتلى، انتهى الأمر بالشرطة إلى التخلص منهم بإلقائهم في نهر السين، حيث ستطفو الجثث بعد أيام قليلة في مواقع متفرقة من مجرى النهر، فضلاً عن ما لا يقل عن 15 ألف شخص تم اعتقالهم واحتجازهم في مراكز الاعتقال. وقد حافظت السلطات على كذبة الأرقام الرسمية لمدة 30 عاماً، حتى كشف المؤرخ جان لوك إينودي عام 1991 في كتابه "معركة باريس" حقيقة المجزرة البشعة.

شكلت الألعاب الأولمبية - على رغم تاريخها المثقل بالانحياز للاستعمار والعنصرية ضد الشعوب من خارج العالم الغربي – دائماً فرصة للمضطهدين للتلويح بالإيماءات الصغيرة وللفت النظر لقضاياهم وقضايا شعوبهم وبني عرقهم. ذلك أن الحدث الذي يشاهده الملايين عبر العالم، يمكن أن يشكل نقطة تواصل هائلة، لا تتوفر دائماً بالنسبة لهؤلاء القادمين من الهامش. وهي الفرصة التي استغلها العداءان الأميركيان من أصل أفريقي، تومي سميث وجون كارلوس، الحائزان ميداليات ذهبية وبرونزية في أولمبياد مكسيكو سيتي عام 1968، عندما قاما برفع أيديهما بالقفاز إلى قبضتي اليد تكريماً لحركة القوة السوداء أثناء عزف النشيد الوطني الأميركي. وفسر سميث لاحقاً تلك الإيماءة بالقول: "كان لدي قفاز أسود على يدي يرمز إلى القوة السوداء؛ الجوارب على قدمي، بدون حذاء، علامة على الفقر؛ وشاح أسود حول رقبتي يرمز إلى عمليات الإعدام خارج نطاق القانون، والشنق الذي عانى منه السود أثناء بناء هذا البلد". وفي أعقاب الاحتجاج، نبذهم جزء كبير من المجتمع الرياضي الأميركي، مع أن مجلة "تايم" تعتبر الآن صورة الإيماءة هي الصورة الأكثر شهرة على الإطلاق.

عند عودتهما إلى البلاد، تعرض سميث وكارلوس للإهانة من قبل العديد من الأشخاص، وتلقى أفراد أسرهم تهديدات بالقتل. كما أظهر الرياضي الأسترالي بيتر نورمان - الشخص الثالث الذي يقف على المنصة - تضامنه مع الاحتجاج: فقد ارتدى شارة مكتوباً فيها "المشروع الأولمبي لحقوق الإنسان" احتجاجاً على سياسة "أستراليا البيضاء" التي تنتهجها الحكومة الأسترالية. وأدانته اللجنة الأولمبية في بلاده، ولم يتم اختياره للمشاركة في الألعاب الأولمبية التي تلت.

في مكان ما يقول المؤرخ والناقد الثقافي الأميركي هوارد زين، إنه لا يتعين علينا أن نشارك في أعمال بطولية كبرى حتى نساهم في التغيير. فالأعمال الصغيرة، عندما يضاعفها ملايين البشر، قادرة على تحويل العالم من حالٍ إلى حال. وفي تراث العرب يقال "لا تحقرن من المعروف شيئاً فإن الجبال تُبنى من الحصى"، وهذا ما يمكن أن تقوم به بعض الإيماءات الصغيرة، إن صادفت الوقت المناسب والمكان الأنسب لتولد وتزهر وتؤثر في النفوس، لأنها تخاطب ضمير البشر لا عقولهم الخاضعة للحسابات. وربما تبدو أفضل الأوقات والأماكن هذه التظاهرات الرياضية والثقافية

الكبرى، التي تريد الأوليغارشية العالمية أن تستغلها لمزيد من الهيمنة، لكنها في الوقت نفسه، تشكل فرصةً للتغيير. ولكن بدون تلك الإيماءات الصغيرة المتراكمة، لن نصل أبداً إلى العالم الذي نريد أن نعيش فيه، عالم خالٍ من القمع والحرب وعدم المساواة. إن إدراك فكرة أن عالماً آخر ممكنٌ، وأن نضالات الناس العاديين هي السبيل الوحيد للوصول إلى هناك أمر صعب للغاية، ولكن في الواقع، هذا ما يخبرنا به التاريخ. لم يكن تفاؤل هوارد زين الدؤوب وأمله في عالم أفضل نابعاً من الإيمان الأعمى أو التدين؛ بل كانا قائمين على معرفته التاريخية العميقة وتجاربه الشخصية.