عبداللطيف الزبيدي
عاتبني القلم: ألا ترى أنك لم تدع إسهاباً في ترميم الهوية، إلاّ وجعلت كل «بايت» مثل «التيرابايت»؟ ما يحزّ في نفسي، هو أنه فاتك أمر لطالما كنت تدعو إليه، الإحساس بجمال العربية، الذي تراه أعلى شأناً من تعليم النحو. قلت: ويحك، أسرع بالإفصاح، قبل أن تسكت شهرزاد الكلمات عن الكلام المباح.
قال: كنت أتمنى أن تنتقي لمحور محاور الساعة، مفردةً غير الترميم، فأكثرية القوم جعلوا من هويتهم وثقافتهم ومواقفهم ظاهرةً صوتيةً. لو كنت مكان اللغة العربية في النشأة الأولى، في تلك العصور الغابرة التي كانت الكلمات تفقس من بيض الثلاثي والرباعي والخماسي والسداسي، لكنتُ اخترتُ جذراً ثلاثيّاً أبلغ، يتناسب أكثر مع مضامين الترميم. ليس عليك أن تلومني، فأنا في نفسي شيء من تطيّر ابن المقفع وابن الرومي. ألم تَرَ كيف تكون كلمة «ترميم» لو حُذفت تاؤها؟ هو ذا الترميم قد أمسى في عداد عظام «رميم».
قلت: خانك الحظ، «حفظتَ شيئاً وغابت عنك أشياءُ». أمَا علمت أن لغتنا لا حرف لها ولا قاموس في هذا العمل المعجمي؟ الذنب ذنب تطوّر الدلالات، وتنوّع الاستعمالات، فأصل معنى الثلاثي «رمم» هو الإصلاح، يقولون: رمَّ الشيءَ الذي فسد بعضه، أصلحه. أصلح الله فهمك، وزاد ربّك علمك. أمّا غلبة العظام على الرميم، فمسألة طريفة يحلّها علم التأثيل والتأصيل والتجذير. ذلك أن من أقدم معاني الرميم، الانتشار، فجمع المنتشر المبعثر المتناثر ترميم للرميم، جمع لما ذهب هباءً منثوراً. العربية، كسائر لغات العالم، تنتخب من بين تعدّد المعاني واحداً أو مجموعة تطفو على السطح، فتختفي القديمة وتتصدر المشهدَ الوارثات. اليوم لا أحد يستخدم السبب بمعنى الحبل. بفعل تطوّر المعاني، تألقت صورة الحبل الذي يربط بين طرفين، وأطاحت معنى الحبل. من دون تطور المعاني، لا يمكن فهم أعداد لا تحصى من نصوص القدامى. الكوميديا الفاقعة، هي أن يقرأ أبوالعلاء، والمتنبي أو شعراء المعلقات مطبوعاتنا اليوم في نسخها الصوتية. سيصرخون: ثكلتك أمّك.
تبسّم ساخراً قائلاً: ألا ترى إلى أين تدحرجنا؟ لقد تزحلق الذهن مثلما يحدث للعقل العربي، حين يجرفه سيل عدم التركيز وتحديد الغاية منذ البداية. شغلتنا المظاهر اللغوية، عن مركز جاذبية هذه المنظومة الفكرية الثقافية الاستراتيجية، التي هي المحور المصيري للأمة. في المؤتمرات الحساسة، قبل أن يبحث أولو الشأن المستجدات، تكون التوصيات معلّبةً جاهزةً، موجّهةً إلى من لا يهمه الأمر.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستعجالية: إذا لم يعمل العرب على الترميم، فإن الآخرين يعملون على الرميم.
التعليقات