محمد صلاح

رغم أن كل المؤشرات والوقائع على الأرض والأحداث التي لا تهدأ، تؤكّد أنّ المواجهة بين الدولة المصرية وجماعة "الإخوان المسلمين" لم تنتهِ، وأنّ التنظيم يُعاني أزمة داخلية وهزيمة حقيقية، رغم ما يلقاه من دعم من دولٍ تُناصب مصر العداء، حتى لو أن العداء لا يبدو ظاهراً في العلن، وجهات كانت ترى في "الإخوان" طرفاً يمكن التعامل معه إذا استمروا في حكم مصر، ووسائل إعلام لم تتوقّف عن بثّ كل ما يسيء إلى حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي، فإن الحديث عن المصالحة عاد من جديد بعد نداء وجّهه قيادي في التنظيم الإرهابي إلى السلطات المصرية يطلب فيه العفو.

ويبدو أن الموقف الصارم للشعب المصري تجاه "الإخوان" أصاب عقل التنظيم، كما ساهمت أطراف خارجية من دول وأجهزة استخبارات، استخدمت التنظيم وتحالفت معه ودعمته على مدى عقود، في تغييب الوعي لدى قادته الذين نجحوا في تبرئة أنفسهم أمام أتباعهم، وفشلوا في إنقاذ الجماعة من مصير محتوم، فاعتقدوا أنّ الكوابيس التي يعيشونها يمكن أن تتحوّل أحلاماً تُنقذ التنظيم من الانهيار، من دون أن يدروا أن النتيجة الطبيعية لجرائم الجماعة هي نفور الناس وعزوفهم عن كل ما هو "إخواني"، حتى صار التنظيم منبوذاً إلّا من أعضائه وحلفائه والجهات المحرّكة له والمستفيدين من غياب عقله وضياع وعيه، لتدخل الجماعة في حالة مزرية تعيشها، ووهم كبير تمارسه وتعتقد، ومعها أعضاؤها، أنه الواقع والحقيقة!!

وما بين مؤيّد ومعارض لقضية المصالحة، أو متفائل ومتشائم، بدأ البعض يعتقد أن الأزمة تكمن في طرفين: الحكم و"الإخوان"، من دون أن يقدّر ردّات فعل أطراف أخرى مهمّة وفاعلة ومؤثرة، أهمها على الإطلاق الشعب المصري نفسه، وأهالي الشهداء من أبناء الجيش والشرطة وفئات الشعب، رغم أن وسائل إعلام مناصرة لـ"الإخوان" تروّج لخطاب إعلامي مفاده أن الجماعة ترفض المصالحة، أو تضع شروطاً صارمة وتعجيزية، منها إطلاق كل سجنائها المحكومين في قضايا الإرهاب. إلّا أن المطّلعين على واقع الجماعة يدركون جيداً أن الرسائل لم تتوقّف، وأنّ الوعود بالبعد عن الإرهاب لم تنتهِ، وأنّ الخطاب المتشدّد في العلن مقصود به طمأنة عناصر التنظيم فحسب، وفي الوقت نفسه إظهار نظام الحكم بأنه متعنّت أو متعالٍ، أو معادٍ لخصومه السياسيين.

الواقع والمنطق والحقائق على الأرض كلها تؤكّد أنّ الحديث الجديد عن المصالحة لن يُفضي إلى تحقيقها، لأنّ كل المعطيات تشير إلى أن المواجهة المتصاعدة لن تنتهيَ قبل أن يرفع "الإخوان" راية الاستسلام والانكسار.

المتغيّر الجديد، القديم، تمثّل في نداء من الرجل الثاني في الجماعة الدكتور حلمي الجزار، نائب القائم بعمل المرشد العام الدكتور صلاح عبد الحقّ، طلب فيه من السلطات المصرية العفو عن الجماعة وإطلاق سراح السجناء من عناصرها في السجون المصرية، مقابل تخلّيها عن العمل السياسي. ونقلت "قناة الشرق" الموالية للتنظيم الإرهابي، عن الجزار المقيم في لندن، رسالةً دعا فيها السلطات في مصر العفو عن الجماعة، مؤكّداً أن التنظيم "جاهز للتصالح مع السلطات والقوى السياسية في مصر، وقبول مبادرتها في الصلح"، متعهّداً أن "تتخلّى الجماعة عن العمل في السياسة مدداً تتراوح ما بين 10 و15 عاماً، ونسيان ما فات خلال 11 عاماً مضت منذ إطاحة حكم الجماعة في حزيران (يونيو) 2013". ولأنّ الشعب المصري تعوّد على أسلوب "الإخوان" في المراوغة، لم يكترث لنداء الجزار الذي أحدث موقفه ردات فعل غاضبة بين قادة التنظيم. ويبدو أنه خشي من المزيد من الانقسامات، فعاد وأصدر بياناً كرّر فيه بعض أدبيات التنظيم، ثم قال كلاماً متناقضاً: "بخصوص ما يتردّد بين الحين والحين بشأن ممارسة "الإخوان المسلمين" للعمل السياسي، تؤكّد الجماعة أن عدم المنافسة على السلطة الذي أعلنته الجماعة، وما زالت متمسكة به، لا يعني أبداً الانسحاب من العمل السياسي الذي يظل من ثوابت مشروع الجماعة الإصلاحي"، وإن الجماعة "ترحّب بأي مبادرة جادّة في سبيل تحرير المعتقلين السياسيين".

ثمة قناعة بأن أي مصالحة مع "الإخوان" سيكون ثمنها باهظاً، إذ ستمكّن الجماعة من استعادة قوتها بسرعة، وحضورها في الشارع بكثافة. ومن ناحية أخرى، ستُدخل الحكم في صدامات مع جهات مؤيّدة له تفوق في أعدادها وتأثيراتها أعداد "الإخوان" وتأثيرهم. نعم، السياسة لا تعرف المواقف الثابتة، وتتغيّر فيها القرارات والإجراءات بحسب المصالح والظرف التاريخي وموازين القوى، لكنّ الواقع يؤكّد أن مصلحة الدولة لا يمكن أن تتحقّق بمصالحة مع "الإخوان"، كما أن الظرف التاريخي لا يصبّ في ذلك الاتجاه. أما موازين القوى فلا مجال لمقارنة دولة بثقل مصر، بجماعة حكمت وفشلت وتسعى إلى الثأر. أما السيسي فيتجاهل عادة الحديث عن "الإخوان"، وحين سُئِل عن المصالحة قبل سنوات، أشار إلى أن موضوعاً كهذا "يخصّ الشعب المصري". وفي سياق آخر، تساءل: "كيف أتصالح مع من دمّر وقتل وسعى إلى ضياع 100 مليون مصري؟". وطوال فترة حكمه، وحتى قبلها، يصف السيسي "الإخوان" بأنهم "أهل الشرّ"، ولا يفرّق بينهم وبين التنظيمات الراديكالية كـ"داعش" أو "أنصار بيت المقدس"، وهو يضع كل التنظيمات المتأسلمة في سلّة واحدة.

تابع المصريون مطلب "الإخوان" بالمصالحة باستنكار ممزوج بالسخرية، ليس من قادة التنظيم الإرهابي كأشخاص يفترض أنهم مارسوا السياسة فحسب، ولكن أيضاً لأنّ أعضاء التنظيم والبسطاء من "الإخوان" يصدّقون هذا الهراء. فالمسألة تتجاوز تنظيماً يسعى إلى خداع الناس أو طمأنة أعضائه أو الكذب على حلفائه، بالإيحاء بأنّ في مقدوره خداع المصريين بعد تجربتهم المريرة مع "الإخوان"، وتصل حدّ أنّهم صنعوا لأنفسهم عالماً خاصاً بهم يعيشون فيه ويضعون مفرداته، ولا يصدّقون ما يدور حولهم طالما أنه يخالف أمنياتهم!