كثر الحديث عن حرب المعلومات، خاصة بعد حادثة إلقاء القبض على مؤسس منصة «تيليغرام» والرئيس التنفيذي لها بافيل دوروف في فرنسا في 24 أغسطس/ آب الماضي.

هذا الاعتقال أعاد الحديث عن حرب المعلومات، وما حرب المعلومات في نزاعها مع مالكي المنصات الاجتماعية سوى رغبة الدول الغربية في الحصول على بيانات المستخدمين، كون أي معلومة تبقى ناقصة بدون البيانات، ولا يمكن الحصول على المعلومة كاملة من دون معالجة البيانات.
منذ انطلاق منصات التواصل الاجتماعي وانتشارها السريع في العالم خلال السنوات الماضية، وعيون الحكومات الغربية تتركز على خوارزميات التشفير لدى كل منصة لتتمكن من الدخول على خصوصيات المشاركين، وتتبع اتجاهاتهم السياسية التي تَبني على أساسها خططها الخاصة لإعادة تشكيل عقول الناس، كما تشتهي مصالحها.
ومن المُسلم به اليوم تأثير الإعلام في الرأي العام العالمي، هذا الرأي الذي كان قبل ظهور المنصات طوع إرادة وكالات الأنباء ووسائل الإعلام التقليدية التي تملكها وتديرها كما تشاء، لكن مع انتشار المنصات الاجتماعية، وجدت الحكومات نفسها أمام إعلام مُؤثر ومُنتشر لا يخضع لإرادتها ولا لتمويلها، إذ إنه ساحة رأي عام مفتوحة على الواقع الحقيقي الذي خرج عن سيناريوهات التضليل الكاذبة إلى فضاء صادق، وإلى حرية تعبير حقيقية.
دارت مناقشات كثيرة حول قضية منصة «تيليغرام» ومؤسسها دوروف، حسب صحيفة «لوموند» الفرنسية عن حدود حرية التعبير ومسؤولية الشبكات الاجتماعية، كونها المرة الأولى التي يُعتقل فيها رئيس منصة رقمية، وهكذا انتشرت بسرعة أخبار الاعتقال على شبكات التواصل الاجتماعي، وأثارت سخطاً عبر الإنترنت عبّر عنه إدوار سنودن، وهو موظف سابق في وكالة الاستخبارات ووكالة الأمن القومي بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي كان قد كشف الستار عن برنامج تجسس على ملايين الأشخاص حين نشر وثائق سرية هزت العالم.
إيلون ماسك، صاحب شبكة «إكس» للتواصل الاجتماعي، عبّر هو الآخر عن سخطه، وتبعهما الكثير من الصحفيين والناشطين على المنصات الدولية، وتقول صحيفة «لبيبيراسيون» الفرنسية، إن القضية فرنسية بالدرجة الأولى، واعتبرت أن الروس استفادوا من خدمات الرئيس إيمانويل ماكرون الذي أسهم في تعميم تطبيق «تيليغرام» في فرنسا.
وهنا لا بد أن نسأل كيف حصل دوروف الروسي على الجنسية الفرنسية التي تشترط أن يكون الحاصل عليها قد عاش مدة في فرنسا ويجيد اللغة الفرنسية، وهذه الشروط لا تنطبق على دوروف؟، ليأتي الرد من الرئيس ماكرون نفسه، الذي قال، إنه اتصل بدوروف بعد خروجه من روسيا، ودعاه إلى باريس، وهو المفتون بعباقرة التكنولوجيا الجدد، وشجّعه على تثبيت التطبيق، «حسب صحيفة لبيبيراسيون»، ليحصل دوروف على الجنسية الفرنسية بصورة غير مُعلنة وبدعم من الرئيس نفسه.
كانت التوجيهات «بجلب الأفضل إلى باريس»، هاجس ماكرون، ما يؤكد أن منح الجنسية الفرنسية له، كان استثنائياً، وأبقت السلطة عليه سراً حتى كشفت عنه صحيفة «لوموند» عام 2023، حيث كان الرئيس الفرنسي يأمل أن يتخذ دوروف من باريس مقراً لشركته، لكن الأخير استطاع الحصول على الجنسية الإماراتية التي سهلت له أن يتخذ من دبي مقراً لشركته ففضلها على غيرها، معترفاً بأن هامش الحرية الرقمية يُعتبر في الإمارات الأفضل.
بالمقابل وجد القضاء الفرنسي أن دوروف رفض الاستجابة للطلبات القضائية، ومنها معلومات تُمكنهم من التعرف إلى مَطلوبين، أو الوصول إلى تبادلاتهم الخاصة، وحسب صحيفة (لبيبيراسيون) أن عملاء المديرية العامة للأمن الخارجي تواصلوا مع دوروف، مشيراً إلى أنه رفض الكشف عن معلومات وخصوصيات المشاركين، وفي هذا يقول محامي دوروف: «إنه من السخافة تماماً الاعتقاد أن دوروف متورط في أعمال فساد لا تعنيه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر».. إذن القضية في أساسها قضية بيانات ومعلومات.
تميّزت «تيليغرام» بالحفاظ على خوارزميات تشفيرها بعيداً عن ضغوط الولايات المتحدة التي تُطالب اليوم بتسليمه لاحقاً، لإخضاعه للعدالة الأمريكية، التي حاكت له سناريوهات فساد جديدة، ويَعتبر نُشطاء على شبكات التواصل أن اعتقال دوروف دليل على «تهاوي ديمقراطية الغرب»، كما انتقد نُشطاء عرب هذه الحادثة، واعتبروها ابتزازاً للرجل الذي يرفض خدمة مصالح الغرب، في حين لا يتم المَساس في باقي المنصات، علماً أن اتهامات الفساد التي وجهت إليه هي نفسها تُوجّه يومياً إلى باقي المنصات.
يُعرف عن دوروف الذي هَجر روسيا بعد أن رفض ضغوطاً مُماثلة بالكشف عن معلومات متابعيه، وأنه عاد عام 2020 بعد تسوية مع الكرملين أتاحت له الاحتفاظ بسرية التشفير التي يحرص عليها. هذه التسوية لم تَرُقْ لا لأمريكا ولا لفرنسا، ما يؤكد أن وراء اعتقاله أهدافاً سياسية واضحة، علماً أن «تيليغرام» بقيت المنصة الوحيدة التي لم تخضع لضغوط الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بحذف المنشورات التي تدعم الحق الفلسطيني وتنشر المجازر والإبادة التي ارتكبت في الحرب على غزة منذ 11 شهراً.
ما أثار غضب الجانبين أن المنصة بقيت نافذة حرية للجميع، رافضة رفضاً تاماً التنازل عن بيانات ومعلومات متابعيها.
دوروف الذي أصبح رمزاً لحرية التعبير بثوبها الرافض لخلع السرية عن خصوصيات متابعيه، مازال حتى اللحظة تحت الإقامة الجبرية في فرنسا.

* كاتبة وباحثة في الدراسات الإعلامية