الحديث عن العقدة أمام الغرب قديم جداً. والمقارنات غير العادلة موضوع مكرر؛ فالغرب لديه إعلام حر، وحرية تعبير، والمنافسة تكون على أساس الكفاءة وتساوي الفرص، إلخ من العناوين البراقة التي يعي الكثيرون أنها ليست دقيقة.

بالنسبة للإعلام، فإن الكثيرين يتذمرون من الإعلام العربي الذي يرون فيه عدم الحيادية وأنه يميل مع الدولة التي تموّله. وينسحب هذا على القنوات الإخبارية الناطقة بالعربية. ومن دون ذكر أسماء تلك القنوات المعروفة لدى الجميع، فإن تلك القنوات توصف بأنها غير موثوقة فقط لأنها تتبنى نهجاً يتماشى مع الدول التي تبث منها، والتي غالباً ما تكون هي الدول التي تمولها.

هنا يطرح السؤال: ما العيب في تبني المؤسسة الإعلامية أجندة الجهة الممولة لها؟

سيقول قائل: أين هو الإعلام الحر الذي ينقل الحقيقة بحيادية ويعطي للمشاهد الفرصة في أن يختار تحديد موقفه بناء على الطرح المهني؟

هذه المحاججة تسقط بمجرد تفضيل قائلها لقناة بعينها على أخرى، لأن ذلك يستبطن أن ميوله السياسية وافقت تلك القناة دون غيرها. لكن الأهم في ذلك السؤال المفخخ بالمغالطات أنه يتلاعب بالمفردات بشكل يوحي للمتلقي بصدقية الإشكال ووجاهة النقد.

وظيفة الإعلام أن يتعامل مع الواقع وليس مع الحقيقة. فالحقيقة تقوم على القيمة المثالية للتوجه الفكري، والذي يعطي الحق لجهة ما أن تمارس ما ليس من حق البقية ممارسته. فحقيقة كون الدولة هي من يمتلك حصرياً السلاح وحق استخدامه مستمدة من القيمة المثالية للدولة بوصفها حامية العقد الاجتماعي. وقِس على ذلك بقية الموضوعات المتعلقة بالمظهر الخارجي المسموح في الفضاء العام، المثلية، الحرية الدينية وغير ذلك، والتي تستمد حقيقتها من القيمة الآيديولوجية الفكرية أو الشرعية الدينية. أما الواقع، فهو ما يحدث بالفعل بغض النظر عن كونه صواباً أو خطأ.

يُضاف لذلك أن المهنية لا تعني الحيادية، فالمهنية نقل الواقع بشكل أقرب لما حصل بالفعل، واستضافة معلقين سياسيين مختلفي الآراء وإعطاؤهم فرصاً متكافئة دون تدخل ممثلي المؤسسة في توجيه مسار الحدث لصالح جهة معينة. هذا الأمر صعب جداً لعدة أسباب؛ أبرزها مواقف الضيوف من التعامل مع قنوات بعينها، وإصرار بعضهم على استفزاز القناة بالتهجم - غير الضروري - على رموز سياسية لها احترامها في البلاد التي تبث منها القناة.

هذه النظرة السلبية لإعلامنا سببها احتكار الدول - وممثليها من رجال الأعمال المتنفذين - لملكية القنوات الإعلامية. لكن السؤال الأهم: هل الغرب مختلف عنّا في ذلك؟

لن نتحدث عن قنوات مثل «BBC, NPR, Monte Carlo, France 24, RFI» التابعة لدولها بالفعل كونها قنوات حكومية، فمن نافلة القول ألا تخالف التوجهات الرسمية لحكومات بريطانيا وفرنسا وأميركا. ولنأتِ إلى القنوات الأميركية الأكثر شهرة؛ وهي «FOX NEWS» و«CNN» اللتان تعدّان الأكثر مشاهدة عند الجمهور الأميركي. فالأولى تنشط لصالح الحزب الجمهوري، والأخرى لصالح الحزب الديمقراطي، بشكل لا يعدو كونه دعاية انتخابية مكتملة الأركان، وليس تغطية إعلامية للعملية الانتخابية التي تحدد هوية الرئيس الأقوى في العالم، والبرلمانيين الذين يراقبون عمله.

من يشاهد تلك القناتين يرى الدعاية الفجة لصالح مرشح الحزب ومهاجمة مرشح الحزب الآخر بشكل يجعله يعرف سلفاً ما سيقال في برامج التحليل السياسي. فوظيفة كل قناة تتلخص في المحافظة على جمهور الحزب، من خلال حشو أدمغتهم بالردود «المفحمة» على جمهور الحزب الآخر. ولعل أبرز المواد التي تحتفي بها كل قناة هي استضافة «التائبين» من ناشطي الحزب الآخر. فعندما تستضيف «فوكس نيوز» نائباً ديمقراطياً يهاجم بايدن أو هاريس، وعندما تستضيف «سي إن إن» نائباً جمهورياً يهاجم ترمب، فإن كل قناة تستخدم ذلك النموذج دليلاً على فساد الحزب الآخر وحقانية الحزب الذي تمتدحه.

أخيراً، هل نجد في نشاط القنوات الغربية اختلافاً عن قنواتنا؟

إن قنواتنا العربية على اختلاف توجهاتها لا تنكر مصدر تمويلها، وتستضيف من يخدم أجندتها بشكل أكثر ممن يختلفون معها. فلماذا نجلد ذواتنا عندما نقارن أنفسنا بالغرب وإعلامه المؤدلج وغير المهني؟

إن مسألة الإعلام الحر الخالي من الأجندة السياسية وهمٌ كبير، ودعوى لن تتحقق حتى مع الجمعيات الخيرية التي لها أجندتها السياسية والاجتماعية، فكيف بصناعة الإعلام التي تستهلك كثيراً من الأموال؟