أزراج عمر

أخيراً، أصبح عبد المجيد تبون رئيساً لعهدة ثانية بشكل رسمي، بعد إعلان المحكمة الدستورية النتائج النهائية للانتخابات الرئاسية الجزائرية التي جرت يوم 7 أيلول (سبتمبر) من الشهر الجاري.

في هذا السياق، يتساءل محللون سياسيون جزائريون: هل ينفرد الرئيس تبون هذه المرّة بالتغيير الوزاري المقبل، أم سيتمّ اختيار الوزراء والمسؤولين التنفيذيين في أعلى هرم الدولة وعلى مستوى الجزائر العميقة من طرف أجنحة مختلفة، تمثل التوازن السياسي داخل أجهزة الحكم؟ وهل حصر الرئيس تبون هذه العهدة، التي ستدوم 5 سنوات كاملة، في الشأن الاقتصادي، لن يضع بمفرده الجزائر على سكة التحديث والعصرنة؟

في الواقع، النخب السياسية الجزائرية متفقة على عدم تمكّن العهدة الأولى للرئيس تبون من القضاء على جميع التحدّيات المتراكمة في البلاد، جراء عوامل عدة، منها هجمة وباء كورونا واستمرار تبعاته عامين ونصف العام، ومرض الرئيس نفسه فترة من الزمان، وثقل الميراث السلبي الذي ميّز بشكل خاص النصف الثاني من مرحلة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة والعصابة، والمتمثل في نهب أموال الخزينة الوطنية، وفي التسبب في تكريس أزمات حادّة، في صلبها إعادة البلاد إلى تقليد الحكم الفردي والشللي، وتكريس أزمة الثقة بين المواطنين والسياسيين في سدّة الحكم، والبطالة، والغلاء المفرط للمعيشة، وغيرها من الآفات التي رفضها الحراك الشعبي الذي أطاح العهدة الخامسة، وأدّى إلى ضعف الحياة السياسية، وإصابة التعددية الحزبية بالكساح المعنوي والمادي؟

يجمع المراقبون السياسيون الجزائريون على أن برنامج الرئيس تبون، على الرغم من حصره غالباً في الشأنين الاقتصادي والاجتماعي، يتضمن كثيراً من الإيجابيات. لكنّ تنفيذ هذا البرنامج يحتاج إلى كتلة متراصة من السياسيين والإداريين والنخب المفكرة والسلك الدبلوماسي الذي يؤمنون به، ويملكون الخبرة والكفاءة وآليات التجسيد الفعلي ميدانياً.

في هذا الخصوص، يشير مراقبون سياسيون جزائريون كثيرون إلى تجارب الماضي التي علّمت المواطنين الجزائريين أن البلاد لم تتخلّص بعد من الهوّة الكبيرة التي تفصل بين البرامج السياسية المعلنة لرؤساء الجزائر وبين تحقيقها في أرض الواقع. من هنا، تبرز مشكلة أساسية تعرقل دائماً إنجاز الوعود الكثيرة، وتتمثل في ضعف الطاقم الوزاري الذي تسند إليه مهمّة إنجاز مشاريع وبرامج رئيس الدولة.

تؤكّد التجربة أيضاً أن أكثر من ثلاثة أرباع وزارات الدولة الجزائرية تُسند إلى أشخاص غير أكفاء ويفتقرون إلى "الرؤية الحضارية"، فضلاً عن عدم توفّر الإرادة عند هؤلاء لاستقطاب الخبرات والكفاءات المقتدرة وتكليفها بإدارة المناصب العليا في هذه الوزارة أو تلك أو على مستوى البلديات والدوائر والمحافظات (الولايات).

لنأخذ بعض وزارات السيادة كنموذج أولي حيث نجد، مثلاً، وزارة التربية والتعليم الابتدائي والإكمالي والثانوي، ووزارة التعليم العالي قد أسندتا عبر عقود من الزمان إلى أشخاص لا يملكون العلم بالعلاقة المتبادلة بين منظومة التعليم بكافة أنماطه وبين مشاريع تحديث الذهنيات والبنيات المادية والرمزية، كما يفتقدون إلى آليات تفعيل بيداغوجيات التعليم العصري والأكثر تقدّماً، من أجل تحريك عصب التنمية وربح رهاناتها، إذ لا يزال التعليم الجزائري الابتدائي والإكمالي والثانوي والعالي يركّز على الكمّ على حساب النوعية والجماليات الحضارية، وجراء ذلك غلب عليه توجّه "التفريخ الآلي" لآلاف حَمَلة الشهادات بلا مضمون حداثي فكري وتقني وعلمي وجمالي يُذكر، فضلاً عن ضعف المستوى اللغوي لهؤلاء.

ويلاحظ أيضاً، أن القيادات الجزائرية المتحكمة، على مدى سنوات عجاف في مناصب الحل والربط، لم تراهن عملياً على إنجاز التحويل الجذري لمنظومة "التعليم المهني" التي تعدّ في العرف الدولي ركيزة أساسية للتمنيات الوطنية في مختلف المجالات.

ففي عهدي الرئيسين الشاذلي بن جديد وعبد العزيز بوتفليقة بشكل خاص، لم يتمّ تحديث إطارات وبرامج وأساليب عمل وزارة التكوين المهني ومديرياتها المركزية والولائية والمنتشرة عبر البلديات التي يبلغ تعدادها 1548 بلدية على الأقل، جراء إسنادها إلى أشخاص تغلب عليهم صفة الانتماء الحزبي أو تطغى عليهم النزعة البيروقراطية التقليدية، وبذلك بقي التكوين المهني الجزائري خارج مدار الحداثة، ومجرد شكل فضفاض لم يسفر عن أي تطور نوعي. والحال، إن نتيجة مثل هذه السياسات السلبية التي عرفها قطاع التكوين المهني حرمت الجزائر من تكوين الإطارات التي تضمن الاكتفاء الذاتي وطنياً، ومن تحقيق التحديث والعصرنة في قطاعات تعدّ من أسس الحضارة مثل البناء والمعمار، والخدمات ذات الطابع التقني، فضلاً عن عدم النجاح في تكوين الأيدي العاملة ذات التكوين التقني والجمالي.

أما إذا أجرينا تحقيقاً موضوعياً على مستوى وزارتين مهمّتين وهما وزارة الثقافة، ووزارة الاتصال (الإعلام)، فإن الوقائع الملموسة تبرز أن النتائج المتحصل عليها حتى الآن ضعيفة. فوزارة الثقافة تفتقر من الناحية المادية إلى الغلاف المالي المناسب، حيث إن موازنة 119 مليون دولار التي تُرصد سنوياً للعمل الثقافي والفني لا تكفي حتى لصرف رواتب عمال الثقافة وصيانة البنايات التابعة لهذه الوزارة على مستوى المدن الكبرى والبلدات التي تعدّ بالمئات. إلى جانب هذا النقص المالي الهائل، لا توجد لدى أغلب المسؤولين الذين تسند إليهم المؤسسات الثقافية والفنية والمديريات المركزية والولائية رؤية حداثية للشأن الثقافي، بل يكتفون بالتنشيط الثقافي الباهت، الذي هو في الحقيقة من مهام الجمعيات الثقافية والفنية التابعة للمجتمع المدني الجزائري الذي يتخبّط بدوره في المشاكل الإدارية والمالية والتنظيمية.

ويلاحظ أن وزارة الثقافة الجزائرية لم تتمكّن على مدى أكثر من ثلاثة عقود من تحقيق أي إنجاز ثقافي يضع الجزائر ضمن مصاف الدول الراقية ثقافياً وفنياً. مع الأسف، هذه الوزارة لم ترمم حتى يومنا 100 "هرم" جزائري عبر البلاد، وبسبب ذلك فإن هذه المعالم الحضارية تتعرّض منذ زمن للموت البطيء يومياً، علما أن قيمتها الحضارية لا تقلّ عن قيمة أهرامات في بلدان أخرى. وحتى الآن، لا يزال غبار النسيان يعلو هذه الأهرامات ذات الشكل الهندسي المتميز، ولا يعرف المواطنون الجزائريون والعالم الخارجي أي شيء يذكر عن هذه المعالم الحضارية والتاريخية الرائعة، والتي تعتبر جزءاً مفصلياً من السجل الرمزي للبلاد، وفي المقدمة بعد الهوية الوطنية.

ويمكن تسجيل الملاحظات نفسها على وزارة الاتصال (الإعلام) الجزائرية، التي بقيت تُسند إلى عناصر ليس لها تاريخ إعلامي. وجراء ذلك، بقيت هذه الوزارة بلا منابر إعلامية تنشط الحياة الوطنية بدلاً من تسيير الأزمات وتغطية بؤر التخلف، الأمر الذي جعلها تخفق في خوض رهان المساهمة في خلق مناخ حرّية التعبير والبيئة الإعلامية المتطورة التي تؤثر إيجابياً في تشكيل الرأي العام الوطني، وتوصل صوت الجزائر إلى العالم الخارجي.