محمد صلاح

يتذكّر المخضرمون الذين تابعوا وقائع انتخابات الرئاسة الأميركية كيف كانت المناظرات المباشرة العلنية بين المتنافسين تتّسم بالوقار رغم حدّة المنافسة، وغزارة الأفكار والرؤى التي تُطرح للناس رغم تباين المبادئ والاستراتيجيات لدى المتناظرين، والثقل والرصانة رغم حرص كل طرف على إبراز مساوئ وأخطاء وسلبيات الطرف الآخر، واحتوائها على قدر غير قليل من الحقائق والمعلومات والبيانات والأرقام وقليل من الأكاذيب والادعاءات والمزاعم، لكن الأمر تغيّر وتبدّلت معه آليات المواجهة، وأصبح كل مرشح مطالب، قبل أن يناظر ويتناظر، بأن يبحث عن الأسلوب الذي سيتبعه ليستفز منافسه، والعبارات التي سيستخدمها ليجرح من يواجهه، وأن يعي أن التأثير في الناخبين لم يعد يعتمد على قدراته في الإقناع والشرح والتفسير وتوصيل المعلومات والحقائق، إنما على عدوانيته في إظهار قوته في الهجوم وقدراته في الدفاع بحركات وعبارات تضع منافسه في موقف الملاكم الذي يتلقّى الضربات ويعجز عن صدّها أو ردّها.

قبل سنوات، استخدم الأميركيون تلك الأساليب والآليات ذاتها في تهديد مجتمعات وإسقاط حكومات وإطاحة أنظمة وتفتيت دول، وتركوا آثاراً لمنهجهم خلفها الربيع العربي ومشاهد ضحايا الإرهاب في العراق وليبيا وسوريا وغيرها من الدول التي كانت مواقع التواصل أحد أسباب انهيارها، حتى باتت الإدارات والمؤسسات الأميركية تعتمد على مواقع التواصل لفرض وجهة النظر الأميركية وسياسات العم سام على ربوع المنطقة.

الواضح أن نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس مرشحة الحزب الديموقراطي والرئيس السابق دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري، دخلا المناظرة الأولى، وقد تكون الأخيرة، وهما يدركان أن ساحة الصراع بينهما لم تعد تقتصر على الإعلام التقليدي، وأن ما يسمّى مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الإلكتروني وأجهزة الاتصال الذكية هي المجالات التي يجب التركيز عليها، حتى يتمكن أي منهما من توجيه الضربة القاضية للآخر. تحليل مضمون المناظرة بشكل علمي أظهر أن ذلك انعكس على وقائع المناظرة في الشكل والمضمون في آن، حيث كان الإيقاع سريعاً، وفي الوقت نفسه سطحياً من دون عمق أو تفاصيل قد يملّ المتابعون منها، وكأنهما حرصا، ومعهما القناة المنظمة للمناظرة، على ألّا يتمّ الغوص في مستنقع العبارات المطولة والاستطرادات التي تحتاج إلى شرح أو تفسير، وتجنّب اختيار الصياغات التي تعكس ثقافة المتحدث أو قدراته البلاغية، وإنما البعد عن التلميح والتصريح مباشرة بالكلمات التي تخرج كرصاص يصوّب نحو الهدف، وكأن كل الأطراف ذات العلاقة بالمناظرة أدركت أهمية أن تكون الأسئلة قصيرة والإجابات سريعة، حتى يتمكّن صُنّاع مواقع التواصل وروادها من اقتناص أجزاء من المناظرة لبثها وترويجها أو لانتقادها والهجوم على محتواها. إنه الأسلوب الذي صار قطاع عريض من الشبان، وربما أيضاً كبار السن، يفضّلونه تأثراً بتعاملهم مع وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك ثقافة العنف التي صارت سائدة والحدة في التعبير عن الرأي التي أصبحت راسخة، وثقافة الاندفاع والتهور والشطط التي باتت من الأمور الاعتيادية، تلك الثقافة التي دافع عنها الغرب واخترعتها أجهزة استخبارات وحرّكتها دول لحماية مصالحها بهدم دول أخرى وتخريب مصالح شعوب أخرى، الثقافة التي صنعت لتبشر بها شعوب العالم الثالث من دون أن يدري صانعوها أن طعمها قد يطيب في وقت ما للشعوب الغربية أيضاً.

عموماً، والسباق الرئاسي يقترب في 5 تشرين الثاني (نوفمبر)، أظهر تحليل مضمون مناظرة هاريس وترامب أن العرب كانوا على هامشها وليس في قلبها، فالقضية الفلسطينية والمذابح الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، وعلاقة العرب بالرئيس الأميركي المقبل، قضايا لم تحظَ لا بالوقت الكافي أو الاهتمام الواجب، سواء من مديري المناظرة أو المرشحين، وصحيح أنهما تنافسا على إظهار الدعم لإسرائيل، لكن كان لافتاً أن كلاهما تفاديا الحديث عن ردات الفعل الشعبية الأميركية على جرائم الجيش الإسرائيلي في غزة، وهذا أمر استغربه رواد الإعلام الإلكتروني الذين شعروا أن التجاهل كان متعمداً حرصاً على مصالحهما مع جماعات الضغط اليهودية، لكن كان هناك تقدير لردّ هاريس على موضوع غزة عندما كرّرت مواقفها (دفاع إسرائيل عن نفسها والوضع الإنساني للفلسطينيين وحلّ الدولتين) وكأنها أرادت أن تبدو مختلفة عن بايدن وترامب في آن، ورغم اتهام ترامب لها بأنها تكره إسرائيل والعرب، إلّا أنه لم يقدّم أي موقف سياسي أو رؤية لمستقبل الحرب وآفاق الحل.

لم تفض المناظرة إلى أن يوجّه أي منهما ضربة قاضية إلى الآخر، ويبدو أن الكتلة غير المحسومة تحتاج إلى المزيد من الوقت خلال الشهرين المقبلين لحسم موقفها، فطابع المناظرة جعلها مساحة للتراشق الحاد السريع المباشر ومناسبة لتبادل توزيع الفضائح، من دون أن يسمع الناس تفاصيل برامج المرشحين بقدر اطلاعهم على اتهامات مباشرة وصريحة بالفساد أو ببناء علاقات مصلحية أو بالضعف والتخاذل. ما يمكن أن يغيّر الترمومتر وموقف الأصوات غير المحسومة هو أخطاء المرشحين، وربما لذلك حاولت هاريس تعريف الناس بها، لأن أعداداً كبيرة من الأميركيين قالوا إنهم لا يعرفونها. بدت متوترة أحياناً، خصوصاً في البداية، وكانت "تبلع ريقها" وصوتها متهتك، لكن التوتر اختفى مع الوقت لاعتقادها أنها تسير بشكل جيد، ثم نجحت في إعطاء صورة إيجابية عن نفسها باعتبارها المستقبل، بينما ترامب يمثل الماضي. وفي المقابل، لم يتغيّر ترامب بطباعه وحدّته وصرامته وتهكمه عبر تعبيرات وجهه. كانت هاريس تنظر إلى الكاميرات لتبدو كأنها تتحدث إلى الناس أو المشاهدين، وحرصت على أن تبدو ساخرة وأحياناً ضاحكة باستهزاء، وهو لم يكترث بالنظر إليها واحتفظ بطريقته في ردات فعل لافتة، وقدّم نفسه للناس متعمّداً أن يظهر أنه لم يتغيّر، واستخدم العبارات القصيرة ذات الدلالة في الموضوعات التي يودّ الناس سماعها، خصوصاً في الاقتصاد وارتفاع الأسعار والصعوبات والأزمات الناتجة من استقبال المهاجرين، وحتى الكلام على الحدود أحاله إلى التأثير على الاقتصاد، ولم يفته أن يسيء لبايدن بعبارة حادة عندما قال: "إنهم أخرجوا بايدن ككلب"!

أخيراً، لاحظ المتابعون أن الجمهوريين غاضبون من مديرَي المناظرة، لأنهم رأوا أنهما كانا يحققان في ما يقوله ترامب (حديثه عن أكل القطط والكلاب مثلاً)، بينما لم يحققا في معلومات ووقائع وردت على لسان هاريس. وانعكس ذلك في اتهام ترامب أثناء المناظرة للقناة المنظمة بالتحيز، خصوصاً عند سؤاله: هل يتمنى فوز أوكرانيا؟ لأن الأميركيين منقسمون حول أوكرانيا.