في الخطاب السياسي العربي آلية أسميها «الخطة الشعبانية»، اقتباساً من أغنية شهيرة للفنان شعبان عبد الرحيم مطلعها: أنا بكره إسرائيل، وأقولها لو اتسأل، لو حتى أموت قتيل، أو أَخُشّ المعتقل.
هل سمعتَ في حياتك عن شخص من المحيط إلى الخليج واجه الموت قتلاً أو العقوبة حبساً، لأنه صرح بمشاعر عدائية تجاه الدولة المذكورة؟ أجيب على طريقة عادل إمام، «يا باشا لو كل واحد عادى إسرائيل اتحبس، كانت البلد كلها باتت في التخشيبة». بل إن العكس صحيح تماماً من وجهين. الأول، التصريح بالعداء لإسرائيل شائع رسمياً وشعبياً وإعلامياً. وهو في كثير من الأحيان شرط للقبول الجماهيري. والوجه الثاني أن من تجرأ وطالب بتحري طريق السلام، كونه خياراً سياسياً عادياً من بين خيارات مطروحة، تعرض للتخوين مهما كان تاريخه، وواجه تهم التصهين والعمالة والتفريط، وأُدرج اسمه على قوائم سوداء، وتحمل تبعات عزلة وإلغاء. حدث هذا مع لطفي الخولي، وعلي سالم. وربما - باستخدام اللغة الشعبانية - مات قتيلاً، كما حدث مع يوسف السباعي والرئيس السادات.
ما الشعبانية؟ بسيطة بساطة العد من واحد إلى ثلاثة. اختلق تحدياً وهمياً، وازعُم أن دونه مخاطر جمة. نفذ التحدي الوهمي. ثم أعلن نفسك بطلاً. بهذه الطريقة تلعب في المضمون وتكسب لقب البطولة. وعلى سبيل المكافأة الإضافية سيتواطأ معك الإعلام في مسرحية الشجاعة. كما فعل مع تلك الأغنية التي صارت شعاراً ونبراساً لسياسيين مخضرمين وظيفتهم أن يختبروا السياسة ويختاروا منها الأنفع.
تمتد هذه الخطة أيضاً خارج السياق الشعباني الضيق إلى وجوه حياتنا العامة.
لم أسمع في حياتي عن فتاة اضطهدها أهلها في مصر أو الدول المحيطة لأنَّها ارتدت الحجاب. مستحيل. لكن العكس صحيح. أعرف بشكل شخصي عشرات الحالات التي أجبرت فيها فتيات على ارتدائه، أو عوقبن إن أردن خلعه. يأتي العقاب على مستوى الأسرة، أو بالضغط المجتمعي في العمل، أو بالتضييق في الشارع. لكن الإسلامجية، في بلد تسعون في المائة من مسلماته محجبات، يشتكون أن من ترتدي الحجاب تتعرَّض للتمييز. فقط لأن بعض أماكن السباحة المحدودة للغاية، ذات الملكية الخاصة، تشترط زياً معيناً. وهي ما فعلت ذلك إلا بسبب سلوك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تمارسه بعض الأسر على الرواد، وإصرارها على فرض أسلوب حياتها على الآخرين.
ورجال التنظيمات الإسلامجية الخارجة عن القانون يدعون أنهم مضطهدون بسبب عقيدتهم. ليس بسبب انخراط تنظيمهم في نشاطات مسلحة، ولا بسبب تحريض التنظيم على العنف، ولا بسبب سعي التنظيم إلى الشقاق الأهلي، ولا بسبب اختيار التنظيم أن يكون عناصر محلية داعمة لدول خارجية. لا. بسبب عقيدتهم. في مجتمع حكم بتفريق مفكر عن زوجته بتهمة نشر أفكار لا تتفق مع الدين، واغتيل فيه آخر بفتوى الردة، ونجا كاتبه الأعظم من المصير نفسه بالتهمة نفسها، ويُنَصِّب البواب نفسه رقيباً على أخلاق السكان. في هذا المجتمع زعموا أن حفاظ المرء على إسلامه تحدٍ، وعاشوا التحدي رغم الاضطهاد.
الخطاب الاقتصادي ليس بعيداً عن الخطة الشعبانية، وإن كان متوارياً. النهج الرسمي منذ الخمسينات، في ظل النظم الاشتراكية، مرتكز على تبرير الإجراءات الاقتصادية أخلاقياً باعتبارها لصالح الفقراء. بهذا المنطق من فقد ثروته كان كبار الملاك، ثم صغار الملاك بقوانين العلاقة بين المالك والمستأجر. وحين نضبت هذه البئر صار الخاسر المعتاد الطبقة الوسطى مع كل موجة تضخمية تقضي على مدخراتها، أو جمارك ترفع أسعار السلع التي تستخدمها. في المقابل، اكتسب الفقراء مجانية شاملة للتعليم، وضمان الكفاف بالدعم الصحي، ودعم الخدمات، وبطاقات التموين. مما شجع على زيادة التوالد في الفقر وزيادة الأحمال. والمحصلة كانت انهيار المعادلات الرياضية التي تحكم الاقتصاد. وبالتالي، فعلاً، خسر الفقراء كما خسر الأغنياء، حيث التفاضل والتكامل ليس شمعة تطفئها الدموع.
بنظرة موضوعية، الفقرة السابقة هي الخطاب الخارج عن المألوف، الذي يعرضك لاتهامات انعدام الإنسانية، والانحياز ضد الفقراء، ولا يكسبك جماهيرية. بيد أنه الخطاب الذي يفيد الجميع، بدليل التجارب الاقتصادية في العالم.
لكن الخطة الشعبانية تأبي أن تفوت الفرصة.
تعيد إنتاج الخطاب الشائع، الفاسد رياضياً والفاشل اقتصادياً. الضار. المهيمن. الذي لا يتعرض قائله لأي انتقاد بل يكسب جماهيرية وتصفيقاً متواصلاً. ثم تزعم أنَّ هذا خطاب التحدي. وأنَّها اجتازت التحدي. وتؤيد نفسها بأشعار وأفلام ميلودرامية وتصنع من متبنيها أبطالاً.
لصاحب «الخطة الشعبانية» أغنية أخرى شهيرة، يقول مطلعها «كداب يا خيشة، كداب أوي أوي».
التعليقات