لا هدف محدداً في ذهنه حين نهض من أمام طاولة عمله، وراح يمشي بخطوات بطيئة في الغرفة. ربما ملّ المل، ربما شعر بحاجة إلى بعض التغيير، علّه يعود إليه بنشاط إضافي. ومن دون قصد وقف أمام خزانة برفوف وباب من زجاج. من يرى الخزانة في الزاوية التي وضعت فيها سيقول إن نجاراً أخذ قياس الزاوية وصمم الخزانة لتوضع فيها. هذا لم يحدث. ما يذكره الرجل أنه اقتنى الخزانة من محلّ لبيع الأثاث لأنها راقت له، وحين أحضرت إلى البيت وجدت مكانها المناسب في تلك الزاوية، التي بدت كما لو كانت مصممة لها.

سنوات مرّت على ذلك، ربما قاربت الخمس عشرة. ومن البدء صفّ الرجل على الرفوف الزجاجية «أنتيكات» من أحجام مختلفة، وبتصاميم متنوعة، وكلما اقتنى «أنتيكاً» جديداً أو أهدي إليه أوجد له مكاناً على أحد تلك الرفوف، حتى تراصت الأنتيكات في الخزانة، وهو يسمي، بينه وبين نفسه، تلك الأشياء «أنتيكات»، خطر في باله خاطر: أتراها مفردة عربية، أم أنها أقحمت إلى لغتنا، فلم نجد مقابلاً عربياً مناسباً لها، فأبقيناها كما هي مثلما فعلنا مع مفردات أعجمية أخرى، قبل أن يفكر: «وما الضرر في ذلك، أليس في اللغات الأخرى مفردات كثيرة من لغتنا العربية أيضاً؟»، ولا يعرف لماذا بدا مصراً على معرفة اليقين، أتراها مفردة أعجمية أم أنها ذات أصل عربي.

ذهب إلى المعجم فقرأ ما يلي: «أنتيكة تعني تُحْفة، شيء قديم له قيمة زهيدة». لم يقل المعجم أصلها وفصلها، لكن أحدهم تبرع بالكتابة حول المفردة قائلاً إنها «كلمة عامية، نستعملها في الحجاز، وربما تكون لاتينية الأصل، وتعني الزينة والأبهة، والموضة بعبارة أخرى، ويقال: فلان أنتيكا بمعنى خفيف الدم، وأحياناً تقال لمن خفّ عقله»، قبل أن يضيف صاحبنا الحجازي: «أما في أصلها اللاتيني فهي تعني العتيق والنادر والقديم». العهدة على القائل، لكن الرجل أقرّ، بينه وبين نفسه، أن المفردة تستخدم في بلاده، أيضاً، لوصف خفيف الدم.

قبل أن ينصرف إلى التأمل في «الأنتيكات» المصفوفة أمامه، خطر في باله خاطر آخر: ألست ما أنا أمامه الآن هو بمثابة «فاترينة»، ولنقل إنها «فاترينة الأنتيكات»، وهنا أيضاً استوقفته مفردة «فاترينة»، فلم يشعر أن وقع موسيقاها عربي تماماً، أتراها تكون، هي الأخرى، آتية من سياق لغوي آخر؟ لا مشكلة في الأمر! ولكن لا بأس بشيء من التحقق في الأمر. فلعلّ المعجم اللغوي سيقوده إلى ما يشبع الفضول.

عاد إليه، إلى المعجم، وسأله: ما أصل «الفاترينة» وما المقصود بها؟ فأجابه: إنها واجهة العرض، وهي كلمة محرفة من Vitrine الفرنسية. خواطر الرجل لم تنته. غداً نكملها.