سليمان جودة
مسكين أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، لأن قول الحق لا يكاد يترك له صديقاً في أنحاء العالم.
فالرجل ذهب يحضر قمة بريكس، التي انعقدت الشهر الماضي في مدينة قازان الروسية، ومن هناك، وقف يدعو إلى وقف الحرب الروسية الأوكرانية، التي دخلت عامها الثالث، في الرابع والعشرين من فبراير الماضي.
ومن قبل القمة بزمان، كان قد سافر إلى موسكو، ومن بعدها طار إلى العاصمة الأوكرانية كييف، وكان في المرتين يسعى إلى وقف الحرب التي طالت أكثر بكثير مما كان متوقعاً لها عند اشتعالها في 2022، لولا أن مسعاه لم يوقف الحرب، رغم أنه كان يخلص السعي وهو يطير بين العاصمتين المتحاربتين.
كان في مقدوره أن يجلس في مكتبه في نيويورك، وأن يكتفي بإطلاق تصريح من وقت إلى آخر، عن ضرورة وقف الحرب، فهذا ما مضى عليه رجال سبقوه في مكانه، ولم يكلفوا خاطرهم أن ينتقلوا إلى مواقع الأحداث الدولية الكبرى في العالم، وعاشوا في المنظمة، يُطلقون التصريح من وراء التصريح، على سبيل ذر الرماد في العيون، لا أكثر.
ولا يزال رجل من نوعية غوتيريش، يمثل القلة لا الكثرة بين الرجال الذين تتالوا على منصب الأمين العام، منذ نشأة المنظمة 1945، فلا يشبهه من حيث مواقفه الشجاعة إلا اثنان، أحدهما داغ همرشولد، الذي اتخذ موقفاً رجولياً من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، والثاني بطرس غالي، الذي اتخذ موقفاً مماثلاً من تقرير قانا الشهير.
ومع ذلك فإن الرجل، الذي كان على موعد مع زيارة يقوم بها إلى كييف، بعد حضور قمة بريكس، وجد نفسه غير مرحب به للقيام بالزيارة، وأعلن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيليسكي، أن أوكرانيا لا تستطيع استقباله!
ولا أحد يستطيع أن يخمن شعور غوتيريش وهو يتلقى نبأ أنه ممنوع من زيارة أوكرانيا، وأن الزيارة التي كانت مقررة له قبل حضوره قمة بريكس، قد جرى إلغاؤها، أو جرى تأجيلها.. لا أحد يستطيع أن يخمن شعوره أو مشاعره، لأنه بالتأكيد عندما شارك في القمة، لم يكن يشارك فيها عن رضا من جانبه عما ترتكبه القوات الروسية في شرقي أوكرانيا. إن منصبه في المنظمة الأم في العالم، يفرض عليه ألا ينحاز إلى طرف دولي ضد طرف، وحتى لو افترضنا أن أميناً عاماً يمكن أن ينحاز، فإن غوتيريش بالذات ليس من هذه النوعية.
وليس أدل على ذلك من موقفه من الحرب الإسرائيلية على غزة، فلقد زار حدود القطاع مرات، وكان في كل مرة لا ينكر حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولكنه كان يدعوها في كل مرة إلى ألا تتمادى في توسيع مفهوم الدفاع عن النفس، فينقلب إلى الانتقام الوحشي من المدنيين الفلسطينيين.
كان يفعل ذلك، وكان يدعو إسرائيل إلى وقف الحرب، أو تجنب استهداف المدنيين على الأقل، وهدم بيوتهم وتشريدهم، ولم تكن هي ترحب بذلك من ناحيتها، فراحت تناصبه العداء، إلى حد أن وزير خارجيتها يسرائيل كاتس، أعلن أن الأمين العام للأمم المتحدة «شخص غير مرغوب فيه»، بالنسبة للدولة العبرية.
ورغم أن هذا المصطلح الذي بين الأقواس يجري استخدامه في العادة ضد الدبلوماسيين الذي يعملون على أرض الدولة، لا الذين يعملون خارج حدودها، مثل غوتيريش، إلا أن الرجل وجد نفسه وقد جرى التعامل معه، وكأنه دبلوماسي يعمل في إسرائيل، ثم كأن عليه أن يغادرها في الحال! ولأنه لا يعمل داخل إسرائيل، فقد تبين أن القصد هو منعه من دخول الدولة العبرية.
والغالب أن أياً من الأمناء العامين السابقين لم يمر بهذا الموقف، فالأمين العام يجد أنه ممنوع من دخول دولتين من دول العالم، مع أنهما عضوان في المنظمة التي يجلس على قمتها، ومع أنه حاول أن يتوازن طول الوقت فلا يميل في الحالتين هنا أو هناك.
ولكن قول الحق لم يَدَعْ لغوتيريش صديقاً في تل أبيب ولا في كييف، وأغلب الظن أنه غير نادم على موقفه في الحربين الدائرتين، لأنه تصرف إزاءهما بوازع من ضمير إنساني حي لديه، ولأنه لم يشأ أن يقفز فوق ما لا يجوز القفز فوقه، وهو يتعاطى مع العاصمتين.
التعليقات