عبدالرحمن الحبيب

كيف أطلقت بداية الزراعة مسار تطور الحضارات؟ كيف تنشأ الحروب؟ كيف أصبحت الثورة الصناعية لحظة محورية في تاريخ البشرية؟ لماذا بدأت الثورة الصناعية في دول مثل إنجلترا؟ لماذا استقر المستكشفون واستثمروا في مستعمرات معينة (كندا والولايات المتحدة وأستراليا) لكنهم استخرجوا الموارد فقط في مستعمرات أخرى؟ لماذا لم تستعمر إفريقيا أوروبا بدلاً من العكس؟ لماذا فاز الحلفاء بالحرب العالمية الثانية؟ لماذا انخفض التفاوت في العديد من البلدان المتقدمة خلال الخمسينيات والستينيات؟ كيف دفعت حقوق الملكية طفرة النمو في الصين في الثمانينيات؟ كيف يهدد تغير المناخ ازدهارنا في المستقبل؟

إنه الاقتصاد، حسب كتاب «كيف يفسر الاقتصاد العالم: تاريخ موجز للبشرية» (How Economics Explains the World: A Short History of Humanity) من تأليف الخبير الاقتصادي أندرو لي، كطريقة جديدة لفهم القصة البشرية من فجر الزراعة إلى الذكاء الاصطناعي.. قصة تحكي كيف حددت الإبداع والجشع والرغبة في التحسين، بدرجة مذهلة، ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، حيث يتنقل الكتاب عبر تاريخ التقدم البشري، ويتوقف لفترة وجيزة لشرح القوى والأفكار الاقتصادية التي دفعته إلى الأمام.. على طول الطريق، يلتقي القراء بالمفكرين الاقتصاديين الكبار الذين سعوا إلى تفسير هذه القوى.

تبدأ الإجابة إلى أكثر من اثني عشر ألف عام مع الثورة الزراعية، وهي فترة تحولية أعادت تشكيل المجتمعات البشرية، حوَّلت أسلافنا الرحل من الصيادين وجامعي الثمار، الذين عاشوا في ظروف قاسية، مع ارتفاع معدل وفيات الرضع ومتوسط العمر المتوقع 33 عامًا فقط، إلى بناء فوائض غذائية، وتوفير حاجز ضد المجاعة.. مما مكَّن للناس التخصص في الحرف الأخرى، وأدى إلى تطوير الأدوات وحتى أنظمة الصرف والسباكة المبكرة؛ كما أرست الزراعة الأساس للاختراقات الفكرية والتكنولوجية، وعززت التقدم في الرياضيات والفلك والأشكال المبكرة من الرعاية الاجتماعية.

لكن الثورة الزراعية جلبت معها أيضا تحديات جديدة، فقد أصبحت الأنظمة الغذائية أقل تنوعا، مما أدى إلى سوء التغذية، وأدت القدرة على تجميع الثروة إلى إدخال التفاوت والقمع، حيث استخدم بعض الحكام الفوائض لتمويل الجيوش واشتعال الحروب والحفاظ على الأنظمة الوحشية.. كما مهدت الطريق للمجتمعات المعقدة والمبتكرة التي نعرفها اليوم، وهو تذكير بأن التحولات المجتمعية الكبرى تأتي مع التكاليف والفرص، وتشكل العالم بطرق ربما لم نكن لنتخيلها أبدا.

وبعد أن يمر الكتاب على عصر الشراع والتنقلات البحرية، ينتقل إلى الثورة الصناعية التي نقلت الاقتصاد العالمي من المقايضة الأساسية إلى شبكات التجارة والتمويل العالمية الواسعة التي نراها اليوم.. حيث جلب القرن الثامن عشر تغييرًا جذريًا مع إدخال تقنيات وعمليات تصنيع جديدة. على سبيل المثال، أحدث محرك البخار الذي اخترعه جيمس وات ثورة في المصانع والنقل، مما وضع الأساس للتصنيع السريع.. ومع ذلك، لم يتم الحصول على فوائد هذه الابتكارات على الفور، إذ لم تتحقق التحسينات الكبيرة في الأجور بل ساءت أحوال العمال وظروف معيشتهم حتى منتصف القرن التاسع عشر.

لكن لماذا استمر عدم المساواة سمة أساسية للاقتصاد العالمي، حيث تزدهر بعض البلدان بينما تستمر بلدان أخرى في النضال؟ وما هي العوامل التي وضعت دولًا معينة على مسار النجاح بينما تتعثر دول أخرى؟ تكمن الإجابة في التأثيرات الدائمة لحربين عالميتين والصراع الاقتصادي الذي شكل النصف الأخير من القرن العشرين.. فقد تميزت الفترة بين الحربين باضطرابات اقتصادية كبيرة، فمثلاً بعد الحرب العالمية الأولى، واجهت ألمانيا تضخمًا مفرطًا معوقًا حيث كانت تكافح لدفع تعويضات الحرب الضخمة، مما ساهم في الظروف التي أدت إلى صعود النازية مع هتلر..

مرت السبعينات والثمانينات بتجاذبات في الاقتصاد بين من يدعو إلى تدخل الحكومة لتحفيز الاقتصاد، ومن يدافعون عن حكومة أصغر وأقل تدخلاً وأسواق أكثر حرية.. كان هناك رابحون وخاسرون، ففي حين شهدت بعض البلدان نمواً سريعاً، واجهت بلدان أخرى تفاوتاً متزايداً.

الخلاصة أن الاقتصاد يعطينا الأدوات اللازمة لفهم العالم عبر مفاهيمه الأساسية: الحوافز، تكلفة الفرص، تناقص المنفعة الحدية، التأثيرات الخارجية، التخصص.. ففي الحوافز والتكلفة على سبيل المثال، اخترعت آلات الطلب الإلكترونية في أوروبا، وليس الولايات المتحدة، لأن العمالة كانت أكثر تكلفة في أوروبا، الأمر الذي شجع على الابتكارات الموفرة للتكاليف.

أما التخصص فينطوي على التركيز في مهمة أو مجال محدد لزيادة الكفاءة والخبرة، فتشتهر بنجلاديش بالمنسوجات، وتايوان بأشباه الموصلات، والصين بالمركبات الكهربائية، والهند بخدمات تكنولوجيا المعلومات. كما يقصد بالتأثيرات الخارجية: الآثار غير المقصودة للنشاط الاقتصادي على أطراف ثالثة، والتي لا تنعكس في تكاليفه أو فوائده.. فاليوم، يعد التلوث وتغير المناخ من أكبر التأثيرات الخارجية، حيث أدت الثورة الصناعية إلى تسريع التنمية في الدول الغربية ولكن بتكلفة هائلة على الكوكب، مما أدى إلى تغير المناخ من هطول أمطار غير منتظمة وموجات حر لا تطاق وذوبان القمم الجليدية.

وعلى الرغم من التقدم البشري، فإن رحلتنا بعيدة كل البعد عن الاكتمال، كما يرى المؤلف، فنحن نواجه تحديات هائلة، من تغير المناخ إلى المخاطر المحتملة التي يفرضها الذكاء الاصطناعي؛ مما يتطلب أن نفكر بعناية في العواقب طويلة الأجل والمخاطر الثانوية.