هأنذا أكملُ ملحوظاتي التفصيليةَ التي كنتُ سُقتُها في المقالِ السابق، إنشاءً على ملحوظتَي يوسف الشويري المتعلقتينِ بنقدِ سيد قطب للحضارةِ الغربية.
قبل أن يقرأَ سيد قطب كتابَ ألكسيس كاريل «الإنسان ذلك المجهول» في عام 1961 أو في عام 1962 أو ربما في عام 1960، كان قد قرأ في عام 1946 كتاب محمد أسد «الإسلام على مفترق الطرق» الصادر باللغة الإنجليزية عام 1934، والمترجم إلى العربية في العام الذي قرأ سيد قطب فيه هذا الكتاب. في هذا الكتاب تعرّف سيد قطب – لأول مرة – على نقد جذري وشامل للحضارة الغربية بموروثها الديني المسيحي، وبموروثها الروماني الوثني، في الفصل الثاني وفي الفصل الثالث منه اللذين حملا هذين العنوانين: «روح الغرب» و«شبح الحروب الصليبية».
محمد أسد (أو ليوبولد فايس سابقاً) في نقده الجذري والشامل للحضارة الغربية فصل الحضارة الغربية عن موروثها الإغريقي بمرحلته القديمة أو الكلاسيكية، وبمرحلته الهيلّينية المنفتحة والمتفتحة، ولم يتعرض لهما بنقد، ولا نسب لهما الفضل في انبعاث المدنية الأوروبية ونهضتها وتطورها في كل المجالات. لماذا قام بهذا الفصل؟
قام بهذا الفصل؛ لأنَّه رأى أنَّ الحضارة الإسلامية - هي وحدها - من انتفعت بخيرات الثقافة الإغريقية والثقافة الهيلّينية العلمية والفلسفية. ورأى أنه عن طريق الحضارة الإسلامية انبثقت المدنية الأوروبية، ووُلدت أوروبا الجديدة!
كما أنَّه فصل الموروث المسيحي عن الموروث اليهودي. ولأنَّه قام بهذا الفصل؛ فإنَّه لم يوجّه نقداً للديانة اليهودية؛ فنقده لأوروبا ما بعد تاريخها الروماني الوثني اقتصر على نقد الديانة المسيحية، رغم أنَّ الاتجاه إلى اعتبار الديانة اليهودية مع الديانة المسيحية هما الموروث الديني (بالمعنى الأخلاقي أكثر من معناه اللاهوتي) للحضارة الغربية، كان قائماً في أوروبا في وقت تأليفه كتابه. هذا الاتجاه بدأ بالظهور في أوروبا من عام 1821.
قد يكون سبب عدم توجيهه نقداً للديانة اليهودية؛ لأنَّها وشعبها العبراني كانا وقت تأليفه كتابه ما يزالان مصنّفَين بأنَّهما شرقيان لا غربيان، آسيويان لا أوروبيان، ساميّان لا آريّان. وقد يكون السبب أنَّه تردَّد لدى بعض العلماء اليهود من أوروبا المتخصصين في الحضارات القديمة، قول لدحض دعاوى الحركة المضادة للسامية. هذا القول هو أن الثقافة العبرية السامية هي من مناهل الثقافة الهيلّينية لا أوروبا الرومانية الآرية. وقد يكون هذان السببان تضافرا معاً.
ومع قولي بهذا التفسير إلا أنه لفت نظري أنَّ محمد أسد في كتابه لم يذكر الديانة اليهودية فيه حتى ولو على نحو عابر، ولم يتطرق إلى اليهود بوصفهم كياناً اجتماعياً واقتصادياً ومللياً في المجتمع المسيحي الأوروبي في القرون الوسطى وفي القرون الحديثة. الإشارة الوحيدة إليهم كتبها مترجم الكتاب عمر فروخ في تعليق له، قال فيه: «وهنا أضيف على هذا الإرث الروماني الوثني المادي عنصر مادي جديد، وأخذوا يعبدون المال كما عبد بنو إسرائيل العجل المسبوك الذي صنعه لهم هارون في غياب موسى من حلي نسائهم».
وكما ترون، فإنَّ هذه الإشارة الوحيدة هي إشارة طفيفة، كما أن قائلها مترجم الكتاب المسلم لا مؤلفه اليهودي السابق.
ظن نفر من المثقفين من البلدان العربية في أول الأمر، بمن فيهم مترجم كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» عمر فروخ، ومقدم طبعته العربية والمقترح على عمر فروخ ترجمته إلى العربية مصطفى الخالدي، أن هذا المسلم النمساوي الجديد مؤلف الكتاب محمد أسد – بسبب تكريسه النقد للديانة المسيحية مع مقارنة تفضيلية للإسلام – متحول إلى الإسلام من الديانة المسيحية، ولم يعلموا بأنَّه متحول من الديانة اليهودية إلى الإسلام.
إنَّ هذا الكتاب هو أول كتاب تُرجم إلى اللغة العربية يقول بأفول الغرب، أو تدهور الغرب، أو انحلال الغرب، أو انحطاطه. وهو القول الذي راج عند بعض الفلاسفة والمؤرخين الأوروبيين بصورة بارزة قبيل الحرب العالمية الأولى، وبين الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية.
محمد أسد مثل هؤلاء القوم الذين كانوا معبرين عن آيديولوجيا التشاؤم الحضاري. والاختلاف بين الصحافي والمثقف المنظِّر محمد أسد وبينهم، أنَّه وجد البديل الديني في الإسلام، ووجد البديل الثقافي والبديل الحضاري في الثقافة الإسلامية وفي الحضارة الإسلامية.
كتاب محمد أسد أثّر في سيد قطب بالغ الأثر في أكثر من جانب. من هذه الجوانب النقد المبغض للغرب ولتاريخه، ووضع ستار حديدي يمنع نهل الثقافة العربية والثقافة الإسلامية من معين الثقافة الغربية والتأثر الإيجابي بها، وبعث إسلام جديد.
سيد قطب بداية من كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» صار يستعمل عبارة «روح الإسلام»؛ يستعملها بإعنات وصلف ليحدد بها ما هو من الإسلام وما هو ليس من الإسلام، من زمن البعثة النبوية إلى منتصف ستينات القرن الماضي، وفق «إسلام جديد» يدعو له، جازماً بأنه هو وحده الإسلام الصحيح والإسلام المستقيم الذي لا يكتنفه ذرة من خطأ، ولا تخالطه شائبة من انحراف ولا نتفة من ضلال.
هذه العبارة استمدها سيد قطب من عنوان الفصل الثاني من كتاب محمد أسد، وحوّرها من «روح الغرب» إلى «روح الإسلام». وإن كانت «روح الغرب» في كتاب أسد رجيمة ودنسة وآثمة، فـ«روح الإسلام» كما يستعمل سيد قطب هذه العبارة بالغة النقاء والطهارة والسمو والسموق.
محمد أسد كان يستعمل هذه العبارة في كتابه بمضمونها لا بلفظها. في فصول كتابه استعملها بلفظها مرة واحدة في آخر صفحة من الفصل الأخير «روح السنّة» من كتابه، وقال في هذه المرّة القليل عما يقصده بها. أما سيد قطب فقد أبدى القول فيها وأعاده في كتبه، وكان يستعملها بوصفها أداة منهجية حاسمة. وموجز القول: أنَّ عبارة «روح الإسلام» عند سيد قطب تمثل روح وجوهر إسلامه الجديد المبتدع، ولا تمثل روح وجوهر إسلام النَّص وإسلام التاريخ.
لقد كُتب الكثير عن كلمة «الإهداء» في كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» التي كتب في أولها: «إلى الفتية الذين كنت ألمحهم بعين الخيال قادمين، فوجدتهم في واقع الحياة قائمين...»، والتي ظن شباب «الإخوان المسلمين» – خطأً – أنها موجهة لهم، لكن لم يُكتب أن هذا الإهداء الرومانتيكي الثوري الديني ما هو إلّا احتذاء وتقليد لكلمة «الإهداء» في كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» التي جاءت في جملة تقريرية قصيرة وبسيطة، هي: «إلى الشباب المسلم»؛ ليس فيها التحليق الأدبي والبلاغي الذي صاغ به سيد قطب «إهداء» كتابه. وللحديث بقية.
التعليقات