كَمَا ارتَفَعَتْ مَوْجَةُ الافتخَارِ بِالأَحْسَابِ، ظَهَرَتْ فِي الشّعْرِ العَرَبِيّ الأبياتُ مَا يُؤكّدُ قَائِلُوهَا أنَّهمْ، عَلَى رَغمِ كَرَمِ أنْسَابِهمْ، لَا يَتَّكِلُونَ عَلَى هَذهِ الأَحْسَابِ. مِنَ الأبيَاتِ الَّتِي أكَّدَتْ فَخْرَ أصْحَابِهَا بمَا يَفْعَلُونَ هُم، لًا بِمَا يَرِثُونَ مِنْ أسْلَافِهِمْ، قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَسْنَا وإِنْ أَحْسَابُنَا كَرُمَتْ يَوماً عَلَى الأَحْسَابِ نَتَّكِلُ
نَـبْـنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا تَـبْـنِـي وَنَفْعَلُ مِثْلَمَا فَعَلُوا
يَقُولُ: إنَّنَا وإنْ كَانَتْ أحْسَابُنَا عَالِيَةَ المَقَامِ، كَرِيمَة الجُذُورِ، لَا نَسْتَنِدُ فِيمَا نَعْتَزُّ بِهِ عَلَى الأَحْسَابِ، ولَا نَتَّكِئُ وَلَا نَتَّكِلُ عَلَيهَا. وَبيَانُهُ كَرَمَ أحْسَابِهِمْ، لِتَأكِيدِ عَدَمِ الاسْتِنَادِ علَى الأَحسَابِ، لَيسَ لِتَوَاضِعِ هَذِه الأَحْسَابِ، بلْ قَنَاعَةٌ بأنَّ الفَخرَ يَكونُ بمَا يقدّمُهُ المَرْءُ مِنْ كَرِيمِ الأَفْعَالِ، مُضِيفاً: (وَنفعَلُ مثلَمَا فَعلُوا)، من الأفعالِ الجَليلةِ، ونتحلَّى مثلَهمْ بِجمِيلِ الخِصَالِ، ونَبِيلِ السَّجَايَا والأفْعَالِ.
إنَّ الشَّاعِرَ حَرِيصٌ علَى تَأكيدِ أنَّهُمْ إضافةً للأوَائلِ، يُقَدّمُونَ لِكرِيمِ أحْسَابِهمْ مَا يزيدُها كَرَماً بِفعلِهمْ هُمْ، لَا بِمجرَّدِ فَخرٍ بِسجلّ الآبَاءِ المُتقدّمِينَ، بل بِفعلٍ كَفِعلِ الأوَائل.
ويُطلقُ علَى المُتقَدّمِينَ من الآبَاءِ والأجْدَادِ مُسَمَّى (الأوَائل)، لأنَّ حَياتَهمْ كَانَتْ الأولَى مُقارنةً بِمَنْ بَعدَهم. البَيتَانِ، مثل مُعظمِ الشّعرِ العَربِيّ، مُختَلفٌ فِي نِسبتِهِمَا، بينَ شَاعريْنِ أُمَوِيَّيْنِ، هُمَا: عبدُ اللهِ بنُ معاويةَ بن عبدِ الله بنِ جعفر بنِ أبِي طَالب (ت131 هـ)، والمُتوكلُ اللَّيثيّ (ت 85 هـ).
وَللبيتَيْنِ قِصَّةٌ طَرِيفَةٌ، جَرَتْ أَحْدَاثُهَا عندمَا زَارَ المُؤرّخُ أمِينُ الرَّيْحَانِي، المُؤسّسَ المَلكَ عبدَ العزيزِ آل سعود، فِي نَجد عام 1924، وكَانتْ زِيارتُه هِي مَادةَ مَا كَتبَ عنْ عبدِ العَزيز، فِي كِتَابِهِ «ملوكُ العرب»، الذِي نشرَهُ عَامَ 1925، وَعَامُنَا الحَالِي 2025 هوَ عَامُ مِئويةِ الكِتَابِ.
لَاحظَ الرَّيحاني، أنَّ أبْيَاتًا مِنَ الشّعْرِ تُكتَبُ فِي مَجَالسِ نَجْدٍ، وَعَلَى مَدَاخِلِ القُصُورِ، منهَا بَيتَانِ، قَالَ إنَّ فيهمَا مَزِيجاً منَ الحِكمَةِ وَمِنَ الخَطَلِ.
وَكَتبَ الرَّيحَانِي، فَقَالَ: «قرأت مرةً في حضور السُّلطان ما كُتِب فوق بابه:
لسنا وإنْ كَرُمتْ أوائِلُنا يومًا على الأنسابِ نتَّكِل جاء مغلوطًا مبنًى لا معنى، فقلتُ، والمعنى ما يهم: ليس أشرف منه مبدأ يا مولاي، ولا أجمل منها حكمة! وإني أجلُّكم وأحترمُ أهلَ نجد؛ لأنَّهم يعملون بها، ولأنَّ السيادةَ والمجد في بيت آل سعود نشأ عنها... ولكن البيت الثاني يا مولاي:
نَبني كَمَا كانتْ أوائِلُنا تَبني وَنَفعلُ مثلَمَا فَعلُوا
هَا هنَا الخطَلُ، هَا هنَا المستنقعُ الذي تنتشرُ منه جراثيمُ أمراضِنا الاجتماعية والسياسية والدينية، وإنَّا إذا تساهَلْنا في تحليل البيت وتفسيره، نسلّم بنصفه الذي لا شكَّ ينفع الشرقيين العملُ به؛ إذ لا أظن أنّنا نستطيع نبْذَ الماضي كلّه بحذافيره، فلا بأس أن نبنيَ كمَا كانت تبنِي أوائلُنا، أن تكونَ حكومتُنا ملكيةً مثلًا، ولكن... فقاطعَني عظمتُه، قائلًا:
نَحنُ نبنِي يا حضرةَ الأستاذ، كمَا كانتْ تبنِي أوائلُنا، ولكنَّنا نفعلُ فوقَ مَا فعلُوا».
وَأمرَ الملكُ بتعديلِ البيتِ، ليكونَ:
نَبني كَمَا كَانتْ أوائِلُنا تَبنِي وَنَفعَلُ «فَوقَ» مَا فَعلُواوَرَوَى المَلكُ فهد بنُ عبدِ العَزيز، أنَّ والدَهُ كَانَ يُرَدّدُ البَيتَ السَّابِقَ، بِكَلِمَةِ (فَوق) مَا فَعَلُوا.
وَاعتبرَ الدُّكتُورُ عَبدُ اللهِ الغذامِي، تَغييرَ المَلكِ عَبدِ العَزِيزِ عِبَارةَ (مِثلَمَا فَعَلُوا) إلَى (فَوقَ مَا فَعَلُوا)، يُمَثّلُ وَعْياً مُبَكّراً مِنْ قِبَلِ المُؤسّسِ، بقيمةِ التَّطْوِيرِ وَبِناءِ دَوْلَةٍ حَدِيثةٍ، لَا تَكُونُ نَمَطِيَّةً تُكَرّرُ مَا فَعَلَ السَّابِقُونَ. وَقَالَ الكَاتِبُ العِرَاقِي الرَّاحِلُ خَالِدُ القَشْطِينِي إنَّ أسْلوبَ الرَّيحَانِي اتَّصَفَ بِالطَّرَافَةِ وَدِقَّةِ المُلَاحَظَةِ، مُمَثِلًا بِقِصّتِنَا ذَاتِهَا، إذِ انطَلقَ الرَّيْحَانِي مِنْ بَيتِ الشّعْرِ لِيَخُوضَ مَعَ المَلِكِ حِوَاراً فَلسَفياً بَنَّاءً.
التعليقات