في لحظة إقليمية مليئة بالتحولات، جاءت قمة مجلس التعاون الخليجي في المنامة لتؤكد أن الخليج يتجه نحو مرحلة جديدة من التكامل السياسي والاقتصادي، مرحلة تتجاوز التعاون التقليدي نحو بناء منظومة موحدة في رؤيتها، مترابطة في مصالحها، وأكثر قدرة على مواجهة المتغيرات العالمية. وفي هذا المشهد الإقليمي، كان الحضور السعودي محورًا أساسيًا في صياغة بوصلة العمل الخليجي. القمة، وفي ظل ظروف دولية متسارعة، أكدت من جديد الدور القيادي للمملكة داخل البيت الخليجي، ومكانة الرياض بوصفها الدولة التي تُسهم في توجيه إيقاع الاستقرار وترتيب الأولويات الاقتصادية والتنموية. وقد تجلّى ذلك بوضوح في حضور سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- الذي حمل إلى المنامة منظورًا يرتكز على تعزيز العمل الجماعي، وتوجيه القرارات الاقتصادية بما يخدم دول المجلس كافة، ويدعم رفاه المواطن الخليجي، ويقود مرحلة جديدة من التكامل الإقليمي.

وجاء البيان الختامي للقمة محمّلًا بمسارات عميقة للقوة الاقتصادية المشتركة، أبرزها الإعلان عن مواصلة العمل على الانتقال من مرحلة “التعاون” إلى مرحلة “الاتحاد” الخليجي، وهو مسار تاريخي يستند إلى مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز «رحمه الله» ويجري اليوم العمل عليه بخطى أكبر نضجًا، بعد أن كلّف القادة المجلس الوزاري والهيئات المختصة باستكمال الإجراءات وعرضها في القمة القادمة. هذا الإعلان يمثل تحولًا شاملًا في السياسات الاقتصادية والتشريعية، ويهدف إلى بناء تكتل اقتصادي قادر على المنافسة عالميًا، معززًا لقوة الخليج كقوة موحدة في الأسواق الدولية. كما دعمت القمة مسار السوق الخليجية المشتركة، باعتبارها أداة محورية لرفع حجم التجارة وتنقل رؤوس الأموال والسلع، إلى جانب المضي في مشاريع الربط الكهربائي التي تُعد اليوم جزءًا أساسيًا في أمن الطاقة واستدامتها، وخاصة الربط مع العراق والتوجه نحو توسعات إضافية.

وعلى مستوى التكامل في قطاع النقل، برزت المناقشات المتقدمة التي تقودها دول المجلس بشأن إنشاء هيئة طيران مدني خليجية موحدة، وهي مبادرة يجري العمل عليها ضمن الاجتماعات الوزارية واللجان المختصة، وتهدف إلى توحيد التشريعات، تسهيل إجراءات النقل الجوي، رفع كفاءة المطارات وشركات الطيران، وتعزيز تنافسية الخليج كمنطقة لوجستية عالمية.

وفي ملف الأمن الغذائي والمائي، جاءت التوجيهات بتطوير سلاسل الإمداد الخليجية المشتركة، ودعم المبادرات الهادفة إلى بناء منظومة إمداد أكثر مرونة، بما يحمي دول المجلس من تقلبات الأسواق العالمية ويضمن استقرارًا طويل المدى. كما أكدت القمة على تطوير منظومات الأمن السيبراني والدفاع المشترك، في وقت ترتفع فيه التحديات الرقمية العالمية وتحتاج فيه المنطقة إلى بنية سيبرانية موحدة تحمي اقتصاداتها ومؤسساتها الحيوية.

وفي جانب السياسات الخارجية المشتركة، كان لافتًا حجم الانسجام بين دول المجلس، إذ جاء البيان الختامي مؤكدًا على مواقف موحدة تجاه مختلف القضايا الإقليمية والدولية، بما يعكس مستوى عالٍ من التفاهم بين القادة الخليجيين.

لقد أثبتت القمة أن السياسة الخليجية حين تتوحد، فإنها تشكّل شبكة أمان حقيقية للاقتصاد والتنمية، وتمنح القطاع الخاص والمستثمرين بيئة مستقرة وواضحة الاتجاه. وهذا التوازي بين الانسجام السياسي والعمل الاقتصادي المشترك هو ما يجعل مجلس التعاون نموذجًا فريدًا للتكامل الإقليمي في عالم يموج بالتقلبات.. وفي قلب هذا المشهد، تواصل المملكة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي العهد «حفظهما الله» دورها بوصفها ركيزة الاستقرار الإقليمي، ومنظومة الرؤية التي تدفع التعاون الخليجي إلى آفاق أرحب، وتُصمم مستقبلًا اقتصاديًا أكثر تنافسية وازدهارًا للمواطن الخليجي.