من الطبيعي والمنطقي أن تتباين الرؤية وتتناقض الآراء، بخاصة مع فنانة بحجم أم كلثوم لا يزال اسمها يملأ الدنيا.

لم أشاهد فيلم «الست»، حتى كتابة هذه السطور، أطل على تلك القضية المثارة بزاوية أكثر رحابة، الحكاية ليست فيلماً بعينه، ولكنها معضلة كانت ولا تزال وستظل، ليست أبداً قضية فيلم نتفق أو نختلف عليه، ولكن هي منهج ومفتاح للأداء، ومن ثم التقييم، هل الفنان عليه أن يوجه كل أسلحته للمحاكاة الشكلية، أم أنَّ هذا يسحب لا شعورياً من قدرته على التقمص، وسيهدر لا محالة طاقته الإبداعية، بعيداً عن الهدف المطلوب.

مثلاً عندما يؤدي الفنان دوراً بلهجة غير لهجته، عليه أن يتدرب أولاً على النطق السليم، حتى لا يهرب منه الإحساس، إذا لم تشعر بالشخصية الدرامية وتتقمصها بكل تفاصيلها، سيتراجع إحساس الجمهور بها.

أتذكر مثلاً أن عمر الشريف، حكى لي أنه لم يكن في حياته الشخصية يرتدي الجلباب، وعندما طلب منه المخرج صلاح أبو سيف في فيلم «المواطن مصري» أداء دور العمدة، طلب شراء أكثر من جلباب يليق بالعمدة، وكان يرتديه في البيت ويستقبل به أصدقاءه على مدى أشهر عدة حتى يألفه، قال لي الممثل القدير حسن حسني إن عمر الشريف قبل تصوير الفيلم، كان يستدعيه إلى غرفته ويجري معه الحوار باللهجة الصعيدية، حتى يألفها أمام الكاميرا.

ماذا لو أصبح على الممثل أن يحاكي شخصية لها في الذاكرة الجمعية صورة ذهنية في الصوت والحركة، مثل أم كلثوم أو أنور السادات أو نابليون، هل يركز فقط على المحاكاة أم يبحث عما هو أعمق؟

الممثل عليه ألّا يبدد طاقته في تحقيق هذا التماثل، ويدرك أن المطلوب أولاً تقمص الروح.

شاهدنا قبل سنوات فناناً تطابق تماماً مع عبد الحليم حافظ، وفشل المسلسل الذي لعب بطولته بسبب هذا التلاصق اللعين، يقولون إنه كانت هناك مسابقة في الأربعينات، لتقليد شارلي شابلن، شارك فيها أيضاً شارلي، غير أنه احتل المركز الثاني، التقليد كسب الأصل، ورغم ذلك سيظل تقليداً. «التريلر» الذي تم عرضه قبل نحو عشرة أيام لفيلم «الست» أثار جدلاً، وأغلب الآراء اتسمت بالعنف والسخرية اللاذعة، من منى زكي، بينما ما حدث عند أول عرض للفيلم في مهرجان «مراكش»، أن تصفيق الجمهور امتد لأكثر من عشر دقائق.

حق النقد مكفول للجميع، الأعمال الفنية ليست انتقائية، ولا تفرق بين ناقد أكاديمي ومواطن آخر دفع ثمن تذكرة السينما.

طالما شاهدت الفيلم لك كل الحق في إعلان رأيك، ولا يمكن لأحد اتهام ذوق الجمهور، أتذكر أن أحد كبار الموسيقيين قال يوماً بعد فشل اللحن: «نجحت الأغنية وفشل الجمهور»!، يوسف شاهين كان يصف كل من لديه رأي سلبي في فيلمه بالقصور العقلي، وكأن فيلمه موجه فقط للعباقرة القادرين على فهم ألغازه، سر إبداع يوسف شاهين أنه يقدم على المستوى التقني تكوينات سينمائية مبهرة جمالياً، بينما أعماله فكرياً مباشرة أكثر مما ينبغي.

حق الناس في التعبير عن آرائهم مقدس ومطلوب، في كل أوجه الحياة، فما بالكم بالفن، يبقى أن نشاهد أولاً الشريط السينمائي، ثانياً ألا نعتبر أن «ترمومتر» الإجادة أو الإخفاق ينحصر في التشابه الشكلي أو الحركي.

الممثل لا يتعامل مع الشخصية الدرامية باعتباره مصوراً فوتوغرافياً، يمسك الكاميرا، ولكنه مثل الفنان التشكيلي يرسم لوحة بالريشة يلونها بإحساسه، لا تتطابق بالضرورة شكلياً، غير أنها يجب أن تتطابق وجدانياً!!